بدأت الحلقة بتساؤل الدكتور إسماعيل سراج الدين عن تقييم تَرِكة نابليون، فأكد على ما اتفق عليه ضيوف الحلقة في جزئها الأول من أهمية ما قام به نابليون من إجراءات وإصلاحات في فرنسا. وأضاف الدكتور الكردي أن من أهم إنجازاته أيضًا تأسيس الجيش وفق نظام عسكري حديث، بالتوازي مع وضع القانون المدني والمؤسسات والمشروعات الجديدة. وهنا يتساءل الدكتور سراج الدين عن تقييم تجربة نابليون؛ فقد خلف على المستوى العسكري قرابة 20 مليون قتيل في أوروبا خلال حروبه التي استمرت قرابة 15 سنة، لكنه على المستوى المدني قدم إنجازات كبيرة.

وقد رأى الدكتور عبيد أن حروب نابليون بدمويتها الرهيبة كانت لها فوائد ملموسة؛ حيث زلزلت العروش البالية في أوروبا كلها، كما أيقظت الشارع الأوروبي بامتداد القارة على نظام عسكري وسياسي جديد، ولا ننسى أن جزءًا من جنوده كانوا غير فرنسيين، وبالتالي عند عودتهم لبلادهم كانوا يثورون ضد أنظمتهم البالية، فهو مبعوث الأقدار ليزلزل أوروبا كلها زلزالاً عنيفًا. وقد أضاف الدكتور الكردي فائدة أخرى مهمة لحروبه؛ أنه أيقظ الروح القومية بأوروبا كلها، وبعد حروبه مباشرة ثار الإيطاليون ثم الألمان؛ وهكذا نشأت الدول القومية الحديثة، حتى أن ألمانيا بعد توحدها حاربت فرنسا مرة أخرى.

لكن الدكتور سراج الدين عاد ليذكر تقييمًا سلبيًّا لتجربة نابليون، فمن ناحية ترك فرنسا أصغر وأفقر مما كانت حين حكمها، وبعد أن أيقظت الثورة الفرنسية أوروبا، كان نابليون ابن الثورة الذي خانها وألغى نظامها الجمهوري ليؤسس النظام الإمبراطوري المستبد، تمامًا كما خان الأباطرة الرومان الإمبراطورية الرومانية. وهنا تدخل الدكتور عفيفي بتذكير الضيوف بالتفرقة بين "نابليون" و"بونابرت"؛ فحين أصبح "نابليون" خان مبادئ الثورة، لكن المشكلة تكمن في تسييد نموذج "نابليون" وترويجه، وهناك من يرى أن محمد علي احتذى أفكار وأحلام نابليون، وكان قارئًا نهمًا لتاريخه، ويقال إن جمال عبد الناصر أيضًا استلهم نموذجه وقرأ تاريخه بإمعان.

وأضاف الدكتور فايز حسين أن القانون المصري تأسس وفق كود نابليون (القانون المدني الفرنسي)، كما كانت حملة نابليون على مصر إضافة للحياة السياسية المصرية، تضمّنت مشاركة الشعب في الحياة السياسية عن طريق نظام الدواوين، وفي عهده أيضًا تم تعيين أول قاضٍ مصري، فقد كان يأتي من السلطان العثماني قبل ذلك.

ثم طرح الدكتور عبيد سؤالاً للمناقشة: أيهما أفضل للبشرية: حكومة اليعاقبة المستبدة التي كانت تقتل بالمقصلة بسبب وشاية رخيصة، أم نابليون المستبد المستنير الذي أضاف إنجازات مدنية كثيرة؟ وقد أجاب الدكتور الكردي بأنه يخشى التعميم هنا، لأن فترة اليعاقبة كانت عصيبة بسبب الحرب، لكنها كانت استثنائية عابرة. وضرب الدكتور سراج الدين مثالاً بالثورة الأمريكية التي كانت عقلانية متزنة، وتحولت لنظام دستوري حتى حدثت الحرب الأهلية؛ فليس بالضرورة أن يكون الحل هو المستبد العادل أو الحكومة الدموية.

وأضاف الدكتور عبيد نقطة هامة بصدد تقييم الأفذاذ من الرجال، فلا ينبغي تقييمهم خارج سياق عصرهم ومقاييسه، فقد كان نابليون ابنًا وفيًّا لعصره، ويجب النظر إليه في هذا الإطار، دون أن نسقط عليه أفكارنا الحديثة عن الرقي والإنسانية والعدالة. لكن الدكتور سراج الدين والدكتور الكردي اختلفا مع الدكتور عبيد حول هذه النقطة، وذلك لأنه حتى في عصر نابليون كان هناك تراث إنساني رائع قدمته الثورة الأمريكية مثلاً، بالإضافة إلى جون لوك ومونتسكيو وفولتير.

وهنا حكى الدكتور سراج الدين عن مشهد سينمائي لنابليون أوردته أفلام فرنسية كثيرة، ولكنه كان مشهدًا حقيقيًّا في حياة نابليون حين بدأ يوزع على إخوته وأصدقائه تيجان الدول الأوروبية وهو في ذروة انتصاراته، وكأنه يوزع أوراق "الكوتشينة"؛ وهنا سأله تاليرون: إلى أي مدى يمكن لهذا النسر (رمز نابليون) أن يحلق؟ ومن هنا بدأ تاليرون يتآمر ضد نابليون لأنه أيقن بحتمية سقوطه.