حوار الثقافات... نحو عالم أكثر حبًّا للإنسان

في عام 1993م، نشر عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنجتون مقاله الأشهر "صدام الحضارات" في مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، ثم أصبح المقال كتابًا عنوانه "صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي" الذي صدر عام 1996م. وفي الكتاب قسّمَ هنتنجتون العالمَ إلى ثماني حضارات، استنادًا إلى معيار الخلفية الثقافية، وتوقّع أن الصراع بعد الحرب الباردة سينبني على الثقافات لا العقائد والدول كما كان في الحرب الباردة.
ولذلك توقّع أيضًا أن يزيد الصدام بين الحضارة الشرقية (الإسلامية) والحضارة الغربية (المسيحية)، مثيرًا بذلك عاصفةً من الخوف والتشاؤم والانتقادات العنيفة لمقولته القاتمة التي تضع المسلمين جميعًا في سلة واحدة، دون تفريق بين أسامة بن لادن والشيخ القرضاوي مثلاً؛ وهكذا انتهى إلى رؤية سوداوية ترى أن الصدام ونبذ الآخر هما أساس التفاعل بين الثقافات المختلفة.
لكن اللافت في هذه الرؤية أنها تناقض مبدأً أساسيًّا لفلسفة التنوير الأوروبية التي أكّدت على أن قيم الحداثة كونية إنسانية عامة، لا تقتصر على حضارة أو جماعة بشرية دون أخرى. ومع ذلك جاءت الاستجابة السياسية لرؤية هنتنجتون واضحةً في مفاهيم: العولمة، والشرق الأوسط الجديد، والأمركة؛ وغيرها من المصطلحات التي تنطوي على نوع من الهيمنة الأمريكية على العالم، ورفض الآخر (الذي سمّاه بوش الابن: محور الشر)، دلالةً على خريطة التوجهات الدينية في العالم الإسلامي.
ولحسن حظ الإنسانية، نهض موقف آخر نقض هذه المقولة، وحاول إنقاذ البشرية من الكوارث التي بشّرتْ بها، ففي عام 1998م قدّم الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي دعوته الشهيرة إلى حوار الحضارات والثقافات، وسافر إلى أوروبا والفاتيكان لعرض دعوته التي حظيت بحفاوة عالمية توّجتْها الأمم المتحدة بإعلان عام 2001م عامًا لحوار الحضارات.
وفي السياق ذاته، لابد من الإشارة إلى أن دعوة خاتمي تأسّست على توجّهات ثقافية عالمية سابقة، ففي أغسطس 1982م صدر إعلان المكسيك حول السياسات الثقافية، مُدرِجًا مفهوم "التنوع الثقافي" ضمن أولوياته، وهو ما تبنّتْه اليونسكو والكثير من المؤسسات الدولية، حتى صدر إعلان اليونسكو العالمي للتنوع الثقافي عام 2001م، بالتوازي مع الدعوة العالمية لحوار الثقافات والحضارات.
وهنا لابدّ أيضًا من الإشارة إلى أن مقولة "صدام الحضارات" كانت لها إرهاصات عالمية سابقة، مثل مقولة ريجان في الثمانينيات: "إمبراطورية الشر"، إشارةً إلى الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية ذات المرجعيات الفكرية والسياسية المضادة للولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ اقتراح فكرة الحوار بين الثقافات، تلقَّفَتْها المؤسسات الدولية وصُنّاع القرار والمثقفون، واعتبروها طوق النجاة للعالم من كابوس صدام الحضارات بكل ما يهددنا به من قتل وتجويع وآلام للإنسان المعاصر؛ فالحوار يشير لغةً إلى معنى التجاوب والتبادل الخلاّق للأفكار والرؤى، والمراجعة للتوجهات السابقة، وتوليد المعاني الجديدة وتوضيحها وتأطيرها لإقناع الطرف الآخر بها، من خلال النقاش والنقد والتقويم.
وإذا كان هنتنجتون قد ارتكز في تقسيم الحضارات إلى أساس ثقافي - ديني واضح، معتبرًا أنّ كل حضارة ذات نسق ثقافي منغلق على نفسه، ومناقض للأنساق الأخرى؛ وهذا ما يُحتّم تصادمَها معًا، فقد رأى الداعون لحوار الثقافات أن هذا الاختلاف الثقافي ذاته هو الذي يؤسس لتنوّع وثراء التجربة الإنسانية؛ لأنه يفتح الباب للتبادل والحوار بين الشعوب، فهذه الأنساق الثقافية المختلفة أثبتت عبر التاريخ قدرة مدهشة على الانفتاح والتفاعل فيما بينها (هل نتذكر نموذج الأندلس الإسلامية – المسيحية – اليهودية). وهنا بالتحديد تظهر أهمية الحوار الثقافي تبادلاً للرؤى ونقدًا وتصفيةً لها.
لقد وضع المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي أساسًا مهمًّا للحوار الثقافي العام حين اكتشف أن ثمةَ أسسًا صوتيةً ونحويةً ودلاليةً مشتركةً بين لغات العالم المختلفة، حتى اللغات التي لم تتقاطع تاريخيًّا في مناطق أو شعوب معينة؛ ففي جميع اللغات مفردات تدل على الأشياء والمشاعر والصفات والأفعال والعلاقات. ولذلك يقدم التنوع الثقافي مساحة واسعة للتواصل بين معطيات ثقافية شديدة التنوع: بوذية – هندوسية – مسيحية – يهودية – إسلامية... لأن كلاًّ منها يعالج مشكلات عامة من زوايا مختلفة، ويقدم حلولاً لقضايا ومشكلات لا يخلو منها مجتمع إنساني؛ فكيف يمكن إذن تجاهل هذه الفرصة الاستثنائية والاتجاه للإقصاء وتعميم ثقافة الاتهام والاستعلاء والكراهية؟!
إن الأمم المتحدة والمؤسسات الثقافية الكبرى في العالم لا تزال تعمل على تحقيق هذا الحلم الإنساني الكبير، بإرساء دعائم الحوار الثقافي المبني على التكافؤ والتعاون لا الاستلاب والتبعية... وتضافرًا مع هذه المؤسسات، تحرص مكتبة الإسكندرية على أداء رسالتها التاريخية بأن تقدم للعالم جزءًا مهمًّا من تراثنا الحضاري التنويري؛ لأن المكتبة تدرك تمامًا أن إشكالياتنا الحضارية الكبرى تشتبك مع كثير من القضايا الثقافية الكبرى لشعوب العالم، وتتحاور معها؛ ومن هنا تسعى المكتبة إلى إعادة نشر تراثنا النهضوي، وترجمته، لإتاحته للشباب في شتى ربوع العالم.
وفي السياق ذاته، تتوّج المكتبة جهودها لاستعادة روح الانفتاح والتعددية التي اتسمت بها مكتبة الإسكندرية القديمة، بأن تتبنّى مشروع إعادة إصدار مختارات من التراث الإسلامي الحديث، لتؤكد كونها مركزًا للتميز في إنتاج ونشر المعرفة، وساحةً للحوار والتفاعل بين الشعوب والحضارات، فهذا المشروع لا يقتصر على رقمنة ونشر الكتب، بل يهدف إلى جعل الكتب وأوعيتها الإلكترونية المعاصرة وسائل لتطوير ودعم المعرفة، والتسامح والحوار بين الثقافات. ولاشك أن لمكتبة الإسكندرية خبرةً كبيرةً في الأنشطة المتعلقة برقمنة ونشر الكتب؛ فقد عملت على إنتاج أعمالها الخاصة، وهو ما أهّلها لأن تصبح الشريك الأساسي لمكتبة الكونجرس العالمية في مشروع: المكتبة الرقمية العالمية.
إننا نعمل معًا.... ولا يزال العالم يفتح نوافذَه لنور الشمس.