رحلة إلى القمر

شارك

لأنه الجار الأقرب للأرض، دائمًا ما وجد القمر طريقه إلى آفاق فضول البشر؛ فقد ظل جماله النائي مصدرًا ملهمًا لأعراف ثقافية ورمزية غنية. ومن ثم، لا عجب أن القمر كان أول عالم جديد يخطو فوقه الإنسان؛ حيث أصبح وجهة لعشرات البعثات الفضائية الهادفة إلى استكشاف ذلك الجرم الغامض.

وقد أشارت تلك البعثات الاستكشافية، إلى جانب الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية وملاحظات الاستشعار عن بُعد إلى اختلافات جذرية بين طبيعة القمر وطبيعة الأرض. دعونا نتحقق من مدى اختلاف  العناصر الأربعة أو تشابهها مع نظائرها على سطح القمر.

الأرض

إذا نظرنا إلى صور سطح القمر المأخوذة بالأقمار الاصطناعية، فكل ما سنستطيع رؤيته هو الصخور وطبقات الغبار الرمادية؛ إلا أن طبيعتها تختلف كثيرًا عن نظائرها الأرضية. فأغلب الصخور القمرية صخور نارية(1)، بينما أغلب الصخور الأرضية صخور رسوبية(2). ونوعا الصخور القمرية الأكثر شيوعًا هما البازلت الغني بالحديد والتيتانوم، ويوجد هذا النوع في الماريا(3) القمرية، والآنورثوسايت الغني بالألومنيوم، والكالسيوم، والسيليكون، ويوجد هذا النوع في البقاع القمرية المرتفعة.

بالمثل، فإن تربة القمر تختلف عن مفهوم "التربة" كما نعرفه نحن؛ حيث لا يدخل في تركيبها عنصر بيولوجي. فتنشأ تربة القمر من الصخور القمرية بصفة رئيسية، إلا أنها تحتوي على بعض المواد الخارجية الآتية من الأجرام السماوية التي ترتطم بسطح القمر. كما تضم التربة القمرية أيضًا جسيمات حملتها الرياح الشمسية إلى القمر؛ فتوطنت بالطبقات الخارجية لحبيبات التربة.

ويستغرق العلماء في دراسات متعمقة لصخور القمر وتربته؛ حيث يُعتقد أنها تحمل أسرار نشأة القمر وتاريخه. والأدهى من ذلك فإن جسيمات هليوم-3 الشمسية المتوطنة في الصخور القمرية تمثل مصدرًا محتملاً للطاقة النووية أكثر نظافة وأمنًا. ويزعم العلماء أنه مقارنةً بالمفاعلات النووية التقليدية، فقد تطلق تلك الجسيمات كميات أكبر من الطاقة وأقل من النفايات عند التصادمات عالية الطاقة.

الماء

يُشتبه في وجود الماء - أحد مصادر الحياة الرئيسية - على سطح القمر منذ فترة طويلة، ولقد جاهد العلماء لعقود طويلة من أجل إثبات ذلك؛ الأمر الذي نجحوا في تحقيقه أخيرًا. فقد تم إثبات تلك الشكوك في عام 2009 عندما قامت وكالة ناسا الفضائية برطم الصاروخ "سينتور" الذي يزن طنين مصاحبًا للقمر الاصطناعي الملاحظ والمستشعر لفوهات القمر (LCROSS) عمدًا بالفوهة "كابيوس" الواقعة بالقرب من القطب الجنوبي للقمر؛ حيث تم اكتشاف عشرات اللترات من المياه المتجمدة. وقد أظهرت نتائج الاستكشافات اللاحقة لخزانات المياه على سطح القمر حوالي 600 مليون طن متري موزعة على الفوهات القطبية التي تبقى في ظلٍّ سرمدي.

وهناك افتراضات علمية مختلفة عن مصدر المياه على سطح القمر. فتقترح إحدى النظريات أن جزيئات الهيدروجين التي تحملها الرياح الشمسية إلى القمر قد تفاعلت مع المركبات التي تحتوي على الأكسجين في الصخور القمرية منتجة الماء (H2O). بينما تشير نظرية أخرى إلى أن المياه قد نتجت عن اصطدام النيازك بسطح القمر؛ حيث تحتوي أجسام تلك الأجرام على معادن رطبة، وتكون مراكزها من الثلج الخالص. وتزعم نظرية ثالثة أن للماء دورة على القمر تهاجر خلالها إلى القطبين من نطاقات دنيا؛ كما تقترح تلك النظرية أيضًا أن يكون الماء قد انبثق من خزانات جوفية غنية بالمياه إلى السطح عن طريق ثورات بركانية.

يعتبر العلماء اكتشاف المياه على سطح القمر خطوة تجاه فهم أفضل لنشأة النظام الشمسي بأسره وتطوره، تمامًا كما تكشف العينات المأخوذة من سطح الأرض عن حقائق الأحداث الجيولوجية القديمة. فيؤمن العلماء أنه إذا توفرت المياه بكميات كافية، فقد يحول ذلك القمر إلى محطة فضاء دائمة، أي قاعدة فضائية قمرية تدعم الاستكشافات التي يقوم بها البشر للأجرام السماوية البعيدة؛ فيمكن أن يشرب رواد الفضاء من ماء القمر، كما يمكن تحويل ذلك الماء إلى أكسجين؛ ليصبح القمر بيئة صالحة للحياة. علاوة على ذلك، يمكن استغلال وجود الماء إلى جانب غازات الهيدروجين، والأمونيا، والميثان في إنتاج الوقود.

الهواء

نظرًا لرقة الغلاف الجوي للقمر الشديدة، لا داعِيَ لأن يقلق رواد الفضاء من تأثير الرياح عندما يلعبون الجولف على سطحه! فوفقًا لأنتوني كولابريت من مركز أبحاث أميس التابع لوكالة ناسا الفضائية في موفيت فيلد بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الغلاف الجوي القمري رقيق للغاية لدرجة أنه "يُعد تقنيًّا طبقة جوية خارجية وليس غلافًا جويًّا؛ فالسنتيمتر المكعب الواحد للغلاف الجوي للأرض عند مستوى سطح البحر يحتوي على مائة مليار مليار جزيء، بينما يحتوي نفس القدر من الطبقة الجوية الخارجية القمرية على حوالي مائة جزيء فقط".

ونتيجة لطبيعته الواهنة، فإنه من الصعب دراسة الغلاف الجوي للقمر عندما يكون البشر و/أو معداتهم على سطحه؛ حيث يتسبب وجودهم في الإخلال سريعًا بتركيبه الواهن وتغيير طبيعته. فعلى سبيل المثال، كان تحليل البيانات الخاصة بخصائص الغلاف الجوي للقمر باستخدام معدات رواد فضاء برنامج أبوللو(4) أمرًا صعبًا؛ حيث كان للغازات التي أطلقتها المعدات تأثير جَلِيٌّ عليها. ومع ذلك لم يزل الغلاف الجوي للقمر يحظى باهتمام علمي كبير؛ فبحلول عام 2013 ستطلق وكالة ناسا الفضائية "مستكشف الغلاف الجوي القمري وبيئته الغبارية" (LADEE) لدراسته بصورة أفضل عمَّا سبق. ولكن، ما الذي نعرفه بالفعل عن الغلاف الجوي للقمر؟

الغازات الرئيسة المكونة للغلاف الجوي للقمر هي النيون، والهيدروجين، والهليوم؛ وذلك بنسب متساوية تقريبًا. وتضم الغازات الأخرى التي تبيَّن وجودها بنسب قليلة الميثان، وثاني أكسيد الكربون، والأمونيا، والأرجون، بل وبخار الماء أيضًا. تأتي تلك الغازات من مصادر مختلفة؛ أهمها: إطلاق الغازات - وهو انبعاث الغازات من باطن القمر نتيجة للنشاط الزلزالي - والتقاط الجزيئات من الرياح الشمسية التي تنشأ من منطقة الكورونا(5) أو الهالة الشمسية الساخنة، والتي تحمل جزيئات الغازات إلى القمر.

ونظرًا لضعف جاذبية القمر، فإن الغازات المكونة لغلافه الجوي تُفقد سريعًا في الفضاء؛ حيث تهرب الغازات الخفيفة بصورة أسرع من الأخرى ذات الجزيئات الثقيلة. فالأرجون، على سبيل المثال، يتكثف نتيجة للانخفاض الكبير في درجات الحرارة ليلاً على سطح القمر؛ بينما تبقى الغازات الخفيفة التي تحملها الرياح الشمسية مثل الهليوم في الغلاف الجوي، وبالتالي فإنها تهرب بسرعة أكبر. وهكذا، تلعب الرياح الشمسية دورًا رئيسًا في الحفاظ على الغلاف الجوي للقمر؛ حيث تأتي بإمدادات مستمرة من الغازات؛ لتعوض تلك التي تهرب إلى الفضاء الخارجي.

النار

من المستحيل تقنيًّا أن تشعل نارًا على سطح القمر؛ حيث لا يمكن تأمين مصادر الوقود، أو الحرارة، أو الأكسجين للإبقاء على لهبها مشتعلاً. إلا أن الخواص المرتبطة بالعنصر الرابع مثل الضوء، والحرارة، والوهج تظهر بشكل أو بآخر على سطح القمر.

فخلال النهار، يكون ضوء الشمس أسطع وأشد على القمر عنه على الأرض؛ وذلك لأن القمر ليس له غلاف جوي لتوزيعه أو سحب لتحجبه. وفي الليل، يكون القمر مُنارًا بفعل ضوء الشمس الذي تعكسه الأرض، ولأن حجم الأرض أكبر بكثير من القمر؛ فإن ليل القمر أكثر إشراقًا من ليل الأرض.

ولدرجات الحرارة على سطح القمر طبيعة فريدة أيضًا؛ حيث قد ترتفع إلى 107 درجات مئوية أثناء النهار وتنخفض إلى -153 درجة ليلاً. ويعود هذا الفرق الشاسع في درجات الحرارة إلى أسباب عديدة؛ أولها - كما ذكرنا من قبل - هو رقة الغلاف الجوي للقمر، والذي يؤدي إلى هروب الحرارة من خلاله بسهولة. بالإضافة إلى ذلك، يستغرق القمر 27 يومًا ليدور حول محوره مرة واحدة؛ أي أن ليلة واحدة على سطح القمر تستغرق أسبوعين أرضيين.

مثلُها كمثل وهج النيران، لوحظت بقاع ساطعة متوهجة على سطح القمر، إلا أنها لم تكن توهجات نارية. فقد لاحظ العلماء ظهور سلسلة من التوهجات على فوهة قمرية كبيرة، ثم أخذ شكل تلك التوهجات في التغير حتى اختفت في النهاية. ويُعتقد أن تلك التوهجات قد ظهرت نتيجة للغازات الهاربة التي ترفع معها الغبار فوق سطح القمر لتواجه ضوء الشمس. وفي الوقت ذاته، قد تكونت سلسلة من التشققات على سطح الفوهة؛ الأمر الذي أدى إلى الاعتقاد أنها مصدر تلك الغازات الهاربة.

إن عناصر الطبيعة الأربعة موجودة جميعها على القمر في هيئات متعددة، ولكنها لا تدعم أي شكل من أشكال الحياة على سطحه. ومع ذلك فإن العلم سباق لا نهاية له، ولا مكان "للحقائق الثابتة" في عالم تغزوه الاكتشافات الجديدة كل يوم. فيمكن للعناصر الأربعة على القمر أن تؤهله ليكون امتدادًا فضائيًّا لمجال النشاط الاقتصادي على الأرض، أو ليكون بيئة اختبار للتقنيات الجديدة؛ فيتحدث العلماء بالفعل عن أنواع من البكتيريا يمكن توطينها في تربة القمر تستطيع البقاء في تلك الظروف القاسية؛ فمن يعلم ما قد يلي ذلك؟

المصطلحات

  1. تتكون الصخور النارية نتيجة لتبريد المواد المنصهرة وتصلُّبها.
  2. تتكون الصخور الرسوبية نتيجة لتراكم المواد الرسوبية التي تنقلها المياه، والثلوج، والرياح، وتصلُّبها؛ وعادة ما تتراكم تلك الصخور في طبقات تحتوي على الحفريات في طياتها.
  3. الماريا القمرية هي بقاع صخرية داكنة على سطح القمر. وكلمة "ماريا" تعني "البحور" باللاتينية؛ وقد اتخذت هذه البقاع ذلك الاسم نتيجة لمظهرها الشبيه بمظهر المحيطات مقارنة بالبقاع فاتحة اللون المحيطة بها.
  4. برنامج أبوللو هو سلسلة من البعثات تطلقها وكالة ناسا الفضائية إلى القمر بداية من عام 1969 وحتى يومنا هذا؛ وهذه البعثات تأخذ البشر إلى سطح القمر وتعود بهم إلى الأرض.
  5. منطقة الكورونا أو الهالة الشمسية هي منطقة ضخمة حول الشمس درجة حرارتها مرتفعة إلى درجة تفقد عندها جاذبية الشمس القدرة على الاحتفاظ بها؛ ولهذا تنطلق منها رياح شمسية.

المراجع

britannica.com
science.nasa.gov
discovermagazine.com
guardian.co.uk
science.nasa.gov
telegraph.co.uk
nytimes.com
livescience.com
imagine.gsfc.nasa.gov
universetoday.com
news.bbc.co.uk
newscientist.com
wisegeek.com
imagine.gsfc.nasa.gov
dictionary.reference.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية