المقالات

الفن والتعايش مع الطبيعة

شارك

لطالما كانت الطبيعة بالنسبة إلى الفنان المصدر الأول للإبداع والإلهام الفني؛ فمنها يستوحي المشاهد والخامات، وهي المتغير المؤثر الأول. وقد تعامل الفنان مع طبيعته المحيطة منذ فجر الإنسانية؛ فكان التعبير الفني هو اللغة المباشرة للتعبير عن الأحداث اليومية التي يمر بها. وكانت رسوم الكهوف التي اكُتشف عديد منها في أوروبا وإفريقيا خير دليل على هذا التواصل مع الطبيعة. فقد استخدم الفنان الخامات الطبيعية المتاحة للرسم على أسطح الكهوف مثل الأكاسيد الطبيعية المستخلصة من الأحجار ودماء الحيوانات التي تم اصطيادها. ومع التطور أصبح الإنسان يصور مشاهده اليومية، ولكن اختلفت الأسطح والخامات حتى إنه مع مرور الزمن ابتعد عن طبيعته وعن الخامات الطبيعية، وأصبحت كل الخامات مصنعة.

مع نهايات الربع الأخير من القرن العشرين وظهور مشكلة ثقب الأوزون ومشكلات التلوث الضخمة في كل أنحاء العالم ثم انتشار الدعوات العالمية لإنقاذ البيئة، حاول الفنانون مرة أخرى إيجاد حلول مع المجتمع للحفاظ على البيئة. أدى ذلك إلى ظهور أنواع جديدة من الفن، مثل الفنون المعتمدة على إعادة التدوير واستخدام الخردة، ثم التوجه إلى استخدام الخامات الطبيعية في بيئتها حفاظًا على التوازن البيئي. وكانت النتيجة توجه الفنانين إلى الفنون البيئية وفن الأرض.

قد تبدو هذه الأسماء غريبة للوهلة الأولى، إلا أنها معبرة جدًّا عن هذه الأنواع الحديثة من الفنون، التي هي في الأصل فنون قديمة لكن أعيد اكتشافها واستخدامها.

فن الأرض

هو فن أنشئ واستحدث من الطبيعة باستخدام الخامات الموجودة والمتوافرة في الطبيعة نفسها، دون إدخال عناصر جديدة عليها إلا في أضيق الحدود. هذا الفن جعلنا نعيد النظر في الطبيعة، وفي كل ما هو متاح من خامات، والتفكير في طرق استخدام تحافظ على هوية العناصر وإدماجها مع الطبيعة الأم، كما أسهم في زيادة تقديرنا للطبيعة وتقدير التغيرات التي تحدث لها.

أقدم الأعمال الفنية المرتبطة بالبيئة هو «ستونهينج» Stonehenge الموجود في المملكة المتحدة، وشيد في أواخر العصر الحجري الحديث، وهو يعد أشهر المواقع الأثرية في أوروبا على الإطلاق. العمل عبارة عن دائرة ضخمة من كتل حجرية كبيرة تزن الواحدة قرابة 25 طنًّا، وثابتة حتى يومنا هذا. ولا أحد يعرف حتى الآن كيف ولماذا بني هذا الصرح العظيم.

Stonehenge. Source: Garethwiscombe/Flickr.com

برع عدد كبير من الفنانين في هذا المجال الفني الجديد، وانتشرت صور أعمالهم على شبكة الإنترنت ومواقع الفنون، وظهرت أعمالهم في عديد من متاحف الفن الحديث في أنحاء العالم المختلفة. ولعل أشهرهم الفنان أندي جولدزورثي من المملكة المتحدة؛ وهو فنان ومصور فوتوغرافي ونحات وعالم بيئة وفنان بيئي. بدأ حياته أستاذًا للرياضة التطبيقية، ثم انتقل إلى دراسة الفنون وتخصص في فن النحت، مما ساعده على عمل قطع فنية في الطبيعة اعتمدت على نظريات الرياضيات الطبيعية. استخدم أندي في أعماله التباين بين ألوان أوراق الشجر والأحجار والأخشاب ودمجها معًا في طبيعتها لعمل مشاهد فنية جميلة.


Wall Drawing, Massachusetts. Credits: Andy Goldsworthy, Courtesy of Abrams Books. Source: GalerieMagazine.com

في هذا المشهد نجد حائطًا مصنوعًا من الأحجار، ملتويًا صعودًا ونزولًا في غابة ماساتشوستس، والأحجار مثبتة معًا دون أي مواد لاصقة كالأسمنت أو الطين، ولكن اعتمد في تثبيتها على نظرية الاحتكاك وتأثير الجاذبية. وقد نفذ هذا العمل عام 2014، وهو مستوحًى من تاريخ المنطقة القديم والأسوار القديمة المنهارة.

أما العمل الثاني فهو «رصيف لولبي» Spiral Jetty للفنان روبيرت سميثسون، وقد نفذ هذا العمل عام 1970 بمدينة أوهايو الأمريكية، ويعد من أشهر النصب التذكارية الأرضية على الإطلاق. وهو مستوحًى من حركة الثعبان، ويعبر عن فترة ما قبل اكتشاف كولومبوس للقارة الأمريكية. العمل عبارة عن رصيف مجعد حلزوني من البازلت والطين وملون ببلورات الملح من البحيرة المالحة العظيمة التي تغمرها المياه في بعض الأحيان. وقد أطلق الفنان عليه «الجيولوجيا المجردة».

Spiral Jetty. Credits: George Steinmetz, Courtesy of Dia Art Foundation, New York, Holt-Smithson Foundation/Licensed by Vaga, New York. Source: GalerieMagazine.com

العمل التالي هو «الجبال السحرية السبعة» للفنان السويسري يوجو روندينيوني، ونفذ هذا العمل عام 2016 بمنطقة صحراء نيفادا. ويمثل سبعة أعمدة من الأحجار المتراصة الملونة بألوان فلورية مبهجة تعكس روح مدينة لاس فيجاس القريبة منها. ارتفاع الأعمدة قرابة 9,144 مترًا. وهو موجود في موقع سهل الوصول إليه؛ لذلك يستقبل نحو ألف زائر يوميًّا.

Seven Magic Mountains. Credits: Gianfranco Gorgoni, Courtesy of Art Production Fund and Nevada Museum of Art. Source: GalerieMagazine.com

العمل الأخير للفنان أندريس أمادور، وهو فنان أمريكي اشتهر برسومه الضخمة على الشواطئ الرملية باستخدام أدوات بسيطة لعمل أشكال هندسية وعضوية. نشأ الفنان في مدينة سان فرانسيسكو وحصل على البكالوريوس في علوم البيئة، ثم عمل فنيَّ حاسبات، ثم تغيرت حياته ليصبح فنانًا في فنون الأرض أو فنون البيئة. وقد نفذ أعماله الضخمة باعتماده على لقطات فوتوغرافية.

 

في النهاية، هذه لمحة بسيطة لفنون حديثة متطلعة تحافظ على البيئة وتوجه عيون البشر إليها وإلى جمالها ومواردها المتنوعة. قد يتفق البعض مع هذه الفنون أو يختلف، ولكنها في النهاية فنون نظيفة لا تسبب أي تلوث للبيئة، كما أنها متنوعة الخامات ومندمجة بشكل كبير مع بيئتها المحيطة. ويعد عدم استدامة هذه الفنون من أهم عيوبها؛ لأن بقاء الفنون واستمرارها هو الهدف الأول والأسمى للفنون منذ بداية الخليقة.

المراجع

galeriemagazine.com

littleartistsleague.org

theartstory.org

vitainternational.media


هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد شتاء/ ربيع 2022.


Cover image Source: Parth Vanpariya/Flickr/.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية