بالألوان الطبيعية

شارك

الكيمياء هي علم دراسة المادة والتغيرات التي تحدث لها. ولا تقتصر دراسة المادة على الكيمياء فقط بل تهتم الفيزياء بدراستها أيضًا. وبينما تهتم الفيزياء بدراسة الأسس العامة والجوهرية للمادة، نجد الكيمياء على الجانب الآخر أكثر تعمقًا في دراستها؛ فتهتم بتركيب المادة وسلوكها والتفاعلات التي تقوم بها، إلى جانب التغيرات التي تحدث لها أثناء تلك التفاعلات.

كل ما يحيط بنا مرتبط بالكيمياء بشكل أو بآخر، فنجد التفاعلات الكيميائية داخل أجسامنا، وفي طعامنا، بل وتحدث أيضًا تفاعلات بين أجسامنا والملابس التي نرتديها. ولذا، فليس من الغريب أن نكتشف أن الألوان التي تحيط بنا في كل مكان ما هي إلا نتيجة لمجموعة من التفاعلات الكيميائية. هل فكرت يومًا في ماهية الألوان وكيفية ظهورها بهذا الشكل؟ هل هي هبة من هبات الطبيعة أم هي نتيجة لتفاعلات كيميائية؟

الأصباغ والخضاب

الألوان هي نتاج طريقة تفاعل المواد الملونة مع الضوء. فالأصباغ والخضاب عبارة عن مواد تضفي لونًا ما على مادة ما؛ ويكمن الاختلاف الوحيد بينهما في وسيلة الذوبان في السوائل وخاصةً الماء.

عادةً ما تذوب الأصباغ في الماء، وبعد ذلك تُغْمَر المادة المراد صبغها في السائل الملوَّن الناتج. وعندما تُمتَص المادة الصبغية وتجف يظهر اللون، وإذا احتفظت المادة بالصبغة حتى بعد غسلها فيطلق على تلك الصبغة صبغة ثابتة اللون.

أما الخضاب فهو لا يذوب في الماء أو الزيت أو أي مذيب آخر. ولاستخدام ذلك الخضاب على المواد، يجب طحنه أولاً حتى يصبح مسحوقًا ثم يتم مزجه بسائل معين يسمى عامل التفريق أو سائل الإذابة. يوضع خليط الخضاب وعامل التفريق بعد ذلك على المادة المراد صبغها، ومع جفاف عامل التفريق يثبت الخضاب على المادة.

وفي أغلب الأحيان، تُستخدم الأصباغ لصبغ المنسوجات والورق وبعض المواد الأخرى، بينما يُستخدم الخضاب في صناعة الألوان والأحبار وأدوات التجميل والمواد البلاستيكية.

ويمكن الحصول على الأصباغ من العديد من المصادر الطبيعية مثل: النباتات والحيوانات والمعادن. وقد اكتشف الإنسان الأصباغ وشرع في استخدامها منذ فجر الحضارة، فعلى سبيل المثال وليس الحصر كان أكسيد الحديد الأحمر يستخدم لصبغ الملابس والفخار وكذلك لتزيين جسم الإنسان. أما الآن فتعتبر الملابس التي يتم صبغها بأكسيد الحديد الأحمر الطبيعي، والمعروف باسم التراب الأحمر، من أكثر الملابس مبيعًا للسياح على جزيرة كاواي في هاواي. ويضفي التراب الأحمر لونًا برتقاليًّا يميل إلى الأحمر على الملابس، ومن المستحيل إزالته. ومن أمثلة الأصباغ الطبيعية الأخرى صبغ السيبيا ذو اللون البني الداكن والذي يتم استخراجه من الحبار.

كما توجد بعض الأصباغ الطبيعية الأخرى ولكن إنتاجها مكلِّف أو يصعب الحصول عليها أو استخدامها. منها اللون الأرجواني الملكي الذي اكتسب اسمه لأنه يأتي فقط من حلزون موركس الاستوائي، ويستخدم العديد من الحلزون للحصول على كمية قليلة جدًّا من ذلك اللون وبالتالي فنجد أن الملوك هم أغلب المستخدمين لذلك اللون. أما الصبغة النيلية فيتم الحصول عليها من نبات الإنديجوفيرا، وهي تضفي لونًا أزرقًا جميلاً على المواد التي تصبغ بها، ولكن تلك الصبغة لا تذوب في الماء فيجب تحويلها أولاً لشكل كيميائي آخر "مختزل" أصفر اللون يذوب في الماء. وعندما يلتصق ذلك اللون بالمادة ويتعرض للهواء، يتحول (يتأكسد) اللون الأصفر إلى لونه النيلي الأصلي.

في عام 1856، حدثت ثورة في تاريخ المواد الملونة عندما اكتشف الكيميائي الإنجليزي ويليام بيركل (1838–1907) بالصدفة البحتة طريقة لتصنيع الصبغات داخل المعمل. ويتم إنتاج تلك الصبغة، ولونها بنفسجي، من مادة توجد في قطران الفحم العادي. وقد أثبت اكتشاف بيركل للعلماء إمكانية إنتاج الصبغات والخضاب صناعيًّا؛ أي أن الإنسان يستطيع صناعتها في المعامل.

والآن فإن الغالبية العظمى من الصبغات والخضاب يتم إنتاجها صناعيًّا، وتلك المنتجات الصناعية أسهل في الصنع وأقل سعرًا، كما أن لونها أكثر تناسقًا من دفعة لأخرى عن عينات الأصباغ الطبيعية التي يصعب التحكم في درجاتها بدقة.

وتتضمن صناعة المواد ثابتة الصبغة استخدام مواد كيميائية تتفاعل مع الصبغة لتكوِّن مركبًا لا يذوب في الماء. فخلال عملية الصبغ، يتم وضع المادة المثبتة على النسيج أولاً وبعد جفافها توضع الصبغة فتلتصق بالمادة المثبتة. ويكتسب النسيج لون الصبغة نتيجة لذلك، مكوِّنًا رابطة غير قابلة للذوبان.

يتم وضع الخضاب على أسطح المواد كمزيج يتكون من جزأين على الأقل: الخضاب نفسه وسائل الإذابة، وعادةً ما يتم إضافة العديد من المكونات الأخرى لذلك المزيج. وتتلخص وظيفة سائل الإذابة في ذلك المزيج في حمل الخضاب إلى السطح مثلما تحمل المركبة الأشخاص والبضائع.

وفي أغلب الأحيان يتم استخدام مادة تخفيف (تينر) في ذلك المزيج لأن سوائل الإذابة عادةً ما تكون سميكة ولزجة ومن الصعب استخدامها بفرشاة. فعلى سبيل المثال، يتم إضافة مادة كالتربنتين على مزيج معين حتى يتسنى استخدامه بسهولة. فنجد أن من أمثلة الأصباغ البسيطة تلك التي تتكون من أكسيد الحديد الأحمر وزيت بذر الكتان، وهو سائل الإذابة، ومادة التربنتين.

وبعد إضافة الخليط المكون من الخضاب وسائل الإذابة ومادة التينر على سطح المادة المراد صبغها، يحدث تفاعلان كيميائيان. أولاً، يتبخر التينر من المزيج تاركًا المزيج على سطح المادة؛ ثانيًا، يحدث تغير كيميائي لسائل الإذابة يعرف بالأكسدة فيتحول السائل من مادة سائلة سميكة إلى مادة صلبة. وبما أن جزيئات الخضاب تظل محبوسة داخل سائل الإذابة الصلب، تلتصق طبقة رفيعة صلبة من اللون بسطح المادة المراد صباغتها.

تدخل المواد الملونة بطريقة أو بأخرى في جميع الصناعات تقريبًا، ويوجد سبعة آلاف نوع مختلف من الصبغات والخضاب، كما يتم اكتشاف العديد من الصبغات كل عام. وتستخدم الصبغات بكثرة في صناعة المنسوجات والورق، كما تستخدم أيضًا في صناعة الجلود والأخشاب إلى جانب المنتجات البترولية مثل: الشمع وزيوت التشحيم والطلاء والبنزين. ومن ناحية أخرى، تُلوَّن المنتجات البلاستيكية والراتنجية والمطاطية بالخضاب.

أما الطعام فيتم تلوينه بالصبغات الطبيعية أو الصناعية التي تمت الموافقة عليها من قِبَل الوكالة الفيدرالية وأثبتت أنها آمنة للاستخدام الآدمي. كما تستخدم الصبغات لتلوين العينات البيولوجية والفراء والشعر.

تغيرات موسمية

Image by wirestock on Freepik

كل خريف ننتظر الظلال البرتقالية والصفراء والحمراء والأرجوانية التي ترسم لوحة طبيعية رائعة مليئة بالألوان. وفي بعض الأعوام تكون لدينا لوحة رائعة مليئة بالألوان وفي البعض الآخر يكون الأفق خاليًا من الألوان تمامًا، فتختلف شدة ألوان الخريف من سنة لأخرى.

هل فكرت يومًا في السر وراء ظهور تلك الألوان البديعة؟ الواقع المدهش هو أن هناك تفاعلات تحدث في الأشجار خلال ذلك الوقت من السنة هي التي تعمل على تغيير لون أوراق الأشجار. فلنلق نظرة أولاً على ما يحدث داخل تركيب أوراق الأشجار خلال الربيع والصيف.

تعمل أوراق الأشجار خلال الصيف كمصانع لإنتاج السكر نتيجة لتفاعل ثاني أكسيد الكربون والماء بفعل سقوط الضوء على الكلوروفيل، وهي العملية التي تعرف باسم التمثيل الضوئي. فيتدفق الماء والمواد الغذائية من الجذور ومن خلال الفروع وصولاً للأوراق، بينما يتدفق السكر الناتج عن عملية التمثيل الضوئي من الأوراق إلى جميع أجزاء الشجرة الأخرى؛ حيث تستخدم بعض الطاقة الكيميائية في النمو ويتم تخزين البعض الآخر.

الكلوروفيل هو المادة الخضراء التي تغطي النباتات خلال مواسم النمو، فهي تقوم بامتصاص اللون الأحمر والأزرق من أشعة الشمس التي تسقط على الأوراق. وبالتالي فإن الضوء الأخضر الذي تعكسه الأوراق يظهر نتيجة اختزال اللونين الأحمر والأزرق.

والزانثوفيل فهو خضب أصفر والكاروتين هو خضب برتقالي، فعلى سبيل المثال يحتوي القرع على خضب الزانثوفيل الأصفر ويحتوي الجزر على خضب الكاروتين البرتقالي. ومع ذلك، فإننا لا نرى تلك الألوان خلال الربيع والصيف لأن الكلوروفيل يعمل على إخفائها.

ومن ناحية أخرى، فالأنثوسيانين هو خضب آخر يؤدي إلى ظهور اللون الأحمر والأرجواني في كثير من الأشجار، فهو مسئول عن ظهور اللون الأحمر على قشر التفاح الناضج واللون الأرجواني على العنب الناضج. ويتكون الأنثوسيانين نتيجة تفاعل السكر مع بروتينات معينة داخل عصير الخلية، ولا يتم ذلك التفاعل إلا إذا كانت نسبة تركيز السكر في العصير كبيرة. كما يتطلب حدوث ذلك التفاعل وجود الضوء، ولذلك في بعض الأحيان نجد قشرة التفاح حمراء من الناحية المواجهة للشمس وخضراء من الناحية البعيدة عن ضوء الشمس.

تؤدي أيام الشتاء القصيرة ولياليه الباردة إلى حدوث تغيرات في الأشجار؛ حيث تتوقف الأوراق عن إنتاج الغذاء. أحد تلك التغيرات هو نمو غشاء فليني بين الفروع وجذوع الأوراق مما يعوق تدفق المواد الغذائية للأوراق. وبسبب إعاقة تدفق المواد الغذائية يقل بالتالي إنتاج الكلوروفيل داخل الورقة ويختفي لون الأوراق الأخضر. فإذا كانت الورقة تحتوي على الكاروتين، فسيتغير لون الأوراق من الأخضر للأصفر مثل أوراق البتولا والقار. وتحدث تفاعلات كيميائية أخرى لإنتاج ألوان أكثر حيوية في الخريف.

ويتأثر مدى وكثافة ألوان الخريف كثيرًا بالطقس، فدرجات الحرارة المنخفضة تؤدي إلى تدمير الكلوروفيل، وعندما تكون درجات الحرارة فوق درجة التجميد يتكون الأنثوسيانين. كما تعمل أشعة الشمس الحارقة على تدمير الكلوروفيل أيضًا ويعزز تكوين الأنثوسيانين. إلى جانب درجات الحرارة المنخفضة والشمس الحارقة، يتكون الأنثوسيانين أيضًا خلال المناخ الجاف مع زيادة نسبة تركيز السكر في عصير الورقة. لذلك تظهر ألوان الخريف الزاهية عندما تنتهي الأيام الجافة المشمسة وتليها ليالي جافة باردة.

ينتج عن المعادلة الصحيحة بين نوع الأشجار والظروف الجوية الملائمة أروع الألوان في الأفق، ولذلك فالخريف هو أروع الأوقات خلال العام. فعلم الكيمياء كالبحر، كلما تعمقنا فيه كلما كشفنا عن أسراره الرائعة السحرية. وكلما قمنا بتحليل الأشياء المحيطة بنا اكتشفنا أن جميعها مرتبط بالكيمياء بشكل أو بآخر، مما يعكس أهمية ذلك الفرع من العلوم الذي يشكل كل حياتنا، وهو بالتالي ليس مجرد فرع أكاديمي من فروع العلم لكنه جوهر حياتنا ولب الكون، فلولا وجود الكيمياء لما وُجِدَت الحياة على وجه الأرض.

المراجع

http://scifun.chem.wisc.edu/chemweek/fallcolr/fallcolr.html
http://msucares.com/lawn/garden/coast/01/011027.html
http://www.scienceclarified.com/Di-El/Dyes-and-Pigments.html
http://en.wikipedia.org/wiki/Chemistry

Image by kjpargeter on Freepik

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية