تتغير ملامح كوكب الأرض على مرِّ العصور، وخير مثال على ذلك وادي الحيتان الذي يقبع في قلب صحراء مصر الغربية. فما كان يومًا ما جزءًا من محيط أضحى الآن صحراء قاحلة، ولكنها ليست خاوية؛ إذ تأوي كنوزًا من الأحافير التي مكنت العلماء من سبر أغوار الماضي واستكشاف التاريخ الجيولوجي والأحيائي لكوكب الأرض.
يقع وادي الحيتان في الجزء الشمالي الغربي لمحمية وادي الريان بمحافظة الفيوم بالصحراء الغربية لمصر. وقد شهد الوادي أعظم الاكتشافات الخاصة بأحافير أسلاف الحيتان عند اكتشافه في بداية القرن العشرين. ووفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والفنون (اليونسكو)، يعدُّ الوادي موقعًا مرجعيًّا عالميًّا استثنائيًّا لدراسة تطور الحيتان، لما يضم من أعداد كبيرة لهياكل عظمية كاملة في حالة جيدة يسهُل دراستها ودراسة بيئتها المحيطة.
يعود تاريخ وادي الحيتان إلى 40-50 مليون سنة، حين كانت مياه بحر تيثس القديم تغطي جنوب البحر الأبيض المتوسط حاليًّا، وتحولت المنطقة التي كانت تجوبها أسلاف الحيتان إلى بيئة بحرية تُعج بمختلف أشكال الحياة. ثم انحسرت المياه مخلفة طبقات من الرواسب حفظت حفريات تلك الكائنات في حالة جيدة إلى يومنا هذا. فإلى جانب الحيتان، توجد حفريات لبقر البحر، وأسنان القروش، والسلاحف البحرية، والتمساحيات. وقد بقيت أحافير تلك الكائنات محتفظة بشكلها وخصائصها حتى اليوم، حتى أن بطون بعض الحيتان مازالت محتفظة بمحتوياتها التي مكنت باحثي علم الأحياء القديمة أو علم الإحاثة من دراستها.
ربما تتساءل كيف أمكن لتلك الكائنات البحرية العملاقة التي نعهدها اليوم أن تعيش على اليابسة؟ في الواقع، يضم الوادي مئات الهياكل العظمية لأسلاف حيتان تنتمي إلى رتبة الحيتان القديمة، التي تمثل المراحل الأولية البرمائية في تطور الحوتيات. وهذا يعني أن الحيتان كانت ثدييات برية تمشي على أطرافها، ثم تطورت شيئًا فشيئًا حتى فقدت أطرافها تدريجيًّا وتحولت إلى حيوانات بحرية ذات زعانف. ولكن لم تفقد الحيتان رئتيها ولا تغيرت طريقة تكاثرها، وهما الشيئان اللذان يميزاها عن الكائنات البحرية الأخرى التي تتنفس الأكسجين الذائب في الماء عن طريق الخياشيم وتتكاثر عن طريق وضع البيض. هكذا، تبقى حفريات وادي الحيتان دليلًا دامغًا يوثق ظاهرة تطور الكائنات وتكيفها مع تغيرات البيئة المحيطة من أجل البقاء.
أبرز اكتشافات الأحافير في وادي الحيتان
بدأت الاكتشافات الأحفورية في وادي الحيتان في أوائل القرن العشرين، ثم نشطت بشكل كبير ابتداءً من ثمانينياته. ونسلط الضوء فيما يلي على اثنين من أبرز تلك الاكتشافات.
في عام 2005، أُعلن استكمال أعمال الاستكشاف الخاصة بحفرية كاملة لحوت باسيلوصورس إيزيس، في تعاون بحثي بين جامعة متشجن وجهاز شئون البيئة المصري. وقد بلغ طول الحوت 18 مترًا، وكان يسبح في المياه على هيئة حرف S مثل الثعابين. وقد اختيرت تلك الحفرية المميزة لتكون المعروضة الأساسية في متحف الحفريات وتغير المناخ الذي افتُتح في وادي الريان عام 2016، ليكون الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط.
وفي عام 2008، اكتشف فريق بحثي مصري بمركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية أحفورة لجنس ونوع جديد من الحيتان في الوادي. الأحفورة لحوت برمائي مفترس ذي أربع أقدام، وهي الأكثر بدائية في إفريقيا من فصيلة الحيتان الأولية. بلغ طول الحوت ثلاثة أمتار، في حين بلغ وزنه قرابة 600 كيلوجرام. وقد أسموه فيوميسيتوس أنوبيس، تيمنًا بإله الموت والتحنيط لدى المصريين القدماء ذي رأس حيوان ابن آوى، نظرًا لتشابه جمجمة الحوت مع جمجمة ابن آوى. وقد بذل الفريق جهدًا بحثيًّا كبيرًا قبل نشر اكتشافه في ورقة بحثية في دورية «وقائع الجمعية الملكية» Proceedings of the Royal Society، في أغسطس 2021.
حقًّا، إن وادي الحيتان موقع بالغ الأهمية والتميز. فقد أعلنته الحكومة المصرية في عام 1997 منطقة محمية خاصة، رغم وقوعه داخل محمية وادي الريان. أعلنت منظمة اليونسكو أيضًا وادي الحيتان أحد مواقع التراث الطبيعي في عام 2005. وسُجلت المنطقة في موسوعة جينيس للأرقام القياسية لاحتوائها أكبر عدد من هياكل حيتان عصر الأيوسين في العالم في عام 2010. وبالإضافة إلى أهمية الموقع لدراسة التاريخ الطبيعي، فإنه أيضًا موطن لمجموعة من الحيوانات المهددة بالانقراض؛ مثل الغزال المصري وثعلب الفنك، وموقعًا مهمًّا للطيور المهاجرة النادرة مثل صقر الشاهين والعقاب النساري.
المراجع
whc.unesco.org
geologypage.com
world-heritage-datasheets.unep-wcmc.org
livescience.com
euronews.com
scientificarab.com
phys.org
*شكر خاص للأستاذة فاطمة أصيل.