المقالات

رحلة مذهلة داخل الدماغ

شارك

لم أصبح مشغوفة بالبحث عن الأساطير التي تبناها الناس لفترات طويلة واعتدوها حقائق وجزءًا أساسيًّا من هويتهم إلا من فترة وجيزة. وشعرت كم يصعب على البشر – أذكى المخلوقات على هذا الكوكب، والذين من المفترض أن يعمروه – أن يستمروا في نقل هذه الأساطير من جيل إلى آخر دون التحقق من أصلها أو مصدرها.

لذلك بدأت رحلتي داخليًّا، وبحثت عن أول فكرة طرأت على بالي. وهذه الفكرة تتعلق بما يتحكم فينا داخليًّا؛ ذلك العضو الأغلى الذي لا يمكن الاستغناء عنه، ولكنه لم يُكتشف بالكامل، إنه الدماغ البشري!

من المفارقات أن أدمغتنا تبدو أبعد مكان يميل الأشخاص العاديون إلى اكتشافه؛ فنحصل على المعلومات التي نتلقاها عنها قراءة فقط دون التفكير مليًّا. وبعض هذه المعلومات تكون مضللة، ولديها القدرة للأسف على تقليص قدراتنا؛ إذ نصير ما نتفكر فيه. والآن، دعونا نرحب بهذا السيد، فنغوص أكثر في آلية عمله، ونعالج كل ما نختبره يوميًّا.

الدماغ في أثناء عمله

على الرغم من أننا اكتشفنا عديدًا من الحقائق عن الدماغ ووظائفه، فما زال معقدًا ويُخبئ كثيرًا داخله. يمثل الدماغ 3٪ من وزن الجسم، ويستخدم 20٪ من طاقته؛ فهو العضو الرئيسي المسئول عن تنسيق الأفكار والعواطف والسلوكيات والحركات والأحاسيس، من خلال خلاياه العصبية التي تقدر بالمليارات.

وشبكة الأعصاب هذه تربط الدماغ ببقية الجسم الذي يتفاعل مع العالم الخارجي، ومن ثم يحدث الفعل ورد الفعل فورًا. هذه العملية تتماشى بالطبع مع مصلحتنا كليةً؛ إذ تعالج المعلومات الواردة من حواس الجسم ثم تبعث إليها الرسائل مرة أخرى، فننجو من المخاطر والمواقف الضارة، مثل إبعاد اليد عن الموقد الساخن، أو الرمش بالعين عندما يطير شيء نحوها، وغيرها كثير من ردود الأفعال.

يوجد شيء مهم تجب ملاحظته، رغم أن أجزاء الدماغ تعمل جنبًا إلى جنب، فكل جزء فيه مسئول عن وظيفة معينة. ينقسم نصفا الكرة المخية إلى أربعة فصوص، كل منها مسئول عن وظيفة معينة، وهي:

1– الفص الجبهي يتحكم في التفكير، والتخطيط، والتنظيم، وحل المشكلات، والذاكرة قصيرة المدى، والحركة.
2– الفص الجداري يفسر المعلومات الحسية، مثل التذوق ودرجة الحرارة واللمس.
3– الفص القَذالي يعالج الصور التي تنقلها عيناك، ويربط هذه المعلومات بالصور المخزنة في الذاكرة.
4– الفص الصدغي يعالج المعلومات التي تنقلها حواس الشم والتذوق والسمع، ويؤدي دورًا في تخزين الذكريات.

هل كل ما نفكر فيه عن أدمغتنا صحيح؟

لنرجع مرة أخرى إلى سؤالنا الرئيسي الذي بدأنا به هذه الرحلة الملهمة عن الخرافات والحقائق وما يكمن وراءها. نعرض فيما يلي أكثر ست أساطير انتشارًا عن الدماغ والحقائق الممثلة في النتائج البحثية عنها.

1– نستخدم 10٪ من قدرة الدماغ فقط

على الرغم من ترديد هذا الافتراض مرارًا وتكرارًا، فهو ليس صحيحًا! أظهرت الأبحاث أن معظم مناطق الدماغ نشطة وتعمل على مدار اليوم، وإن لم تكن جميعها تعمل في الوقت نفسه، حين نرتاح. ففي أثناء النوم، تنشط بعض المناطق، مثل قشرة الفص الجبهي التي تتحكم في المستوى التفكيري الأعلى وفي الوعي الذاتي، أو المناطق الحسية الجسدية التي تساعد الناس على الشعور بمحيطهم.

ويوجد دليل آخر يكشف زيف هذه الأسطورة، فإذا استخدمنا 10٪ من قدرة أدمغتنا فقط، فلماذا يؤثر ضرر صغير في منطقة ضئيلة بالدماغ في الإدراك والعمل؟ ولماذا يجب أن نقلق بشأن تلف منطقة صغيرة في الدماغ ما دمنا لا نستخدمه كلية بالفعل؟

2– وقوع الضرر لا رجعة فيه

ذكرنا سابقًا أن الدماغ يتحكم في جميع سلوكياتنا وعواطفنا وردود أفعالنا وما إلى ذلك، فمن الطبيعي إذا تضرر أو أصيب بسكتة دماغية أن يتأثر عمله. ومع ذلك، فهل هذا أمر دائم؟ أو يمكن الشفاء منه؟

تشير الأبحاث إلى أن الدماغ بإمكانه التعافي من تلقاء نفسه في بعض الحالات، ولكن هذا يتوقف على شدة الضرر ومكانه. فعلى سبيل المثال، يمكن للدماغ التعافي بعد اضطراب ناجم عن ارتجاج، وهو نوع معتدل وشائع من إصابات الدماغ التي تؤدي إلى اضطراب مؤقت في وظائفه، ولكن يشترط وجود فترة كافية للتعافي وعدم تكرار الإصابة. وعندما نتناول حالات أكثر خطورة، مثل السكتات الدماغية، تظهر الأبحاث أن المخ قد يكون قادرًا على تطوير روابط ووظائف جديدة مستخدمًا المناطق السليمة بمساعدة العلاج.

3– موت خلايا الدماغ يعني نهاية المطاف

في السياق نفسه، دعونا نتذكر أسطورة أخرى منتشرة على نطاق واسع عن الاعتقاد أن لدى البالغين عددًا محددًا من خلايا الدماغ، وعندما نفقد أيًّا منها، نفقدها إلى الأبد دون إمكان استعادتها.

توصل الخبراء من خلال الأبحاث مؤخرًا إلى أن الدماغ البشري بإمكانه تكوين خلايا جديدة من خلال عملية تدعى «تكوين الخلايا العصبية»، والتي تبدأ في أثناء مرحلة نمو الجهاز العصبي المبكر وطوال العمر. وهذه العملية تكون مسئولة عن نمو الخلايا العصبية في الدماغ وإنتاجها. ووجدوا أن هذا يمكن أن يحدث حتى مع تقدم السن، وفي مناطق مختلفة من الدماغ.

4– أنت إما أيسر الدماغ وإما أيمن الدماغ

إذا كنت تميل إلى المنطق وتهتم بالتفاصيل، فأنت أيسر الدماغ، في حين إذا كنت مبدعًا وتتبع حدسك، فأنت أيمن الدماغ. تنتشر هذه الأسطورة على نطاق واسع، وقد أثرت في خيارات الناس في عديد من جوانب حياتهم، مثل اختيار مهنة أو هواية... إلخ. في الواقع، إنها أسطورة فقط!

نعم، لدينا أدمغة غير متكافئة تسمح لكل منا أن يكون فريدًا ويتفوق في بعض المهام أكثر من غيرها، ولكن هذا لا يعني أن الشخص إما أيسر أو أيمن الدماغ. فعلى الرغم من أن كل نصف من الكرة المخية يتعامل مع وظائف معينة أو يكون مسئولًا عنها، فإن واجباته لا تنقسم بصرامة، وليس يوجد أحد أيسر الدماغ أو أيمن الدماغ تمامًا.

5– الدماغ يفضل أسلوب تعلم محددًا

شاهد أو استمع أو اقرأ أو افعله فحسب؛ ربما لاحظت أنك تتعلم أشياء ومهارات جديدة من خلال إحدى هذه الطرق. على سبيل المثال، قد تفضل أن تقرأ عن تطور اللقاحات عن مشاهدة فيلم وثائقي أو الاستماع إلى تدوين صوتي حول الموضوع نفسه.

ورغم أن تفضيل أسلوب تعلم ما مفهوم جذاب وقد طُوِّر إلى نماذج، مثل نموذج فارك VARK الذي يشير إلى الأساليب المرئية والسمعية والمقروءة والمكتوبة والحركية للتعلم، فما زالت الأدلة العلمية لتفسير أنماط التعلُّم تلك غير كافية.

بالإضافة إلى ذلك، قد انتقد هذا المفهوم على نطاق واسع، واقترح بعض الباحثين أنه يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة وإلى عرقلة عملية التعلُّم إذا طُبق على نظام التعليم دون مزيد من البحث.

6– استحالة تعلُّم أكثر من لغة في الوقت نفسه

يعتقد بعض الناس أن تعلم أكثر من لغة في الوقت نفسه أمر مستحيل؛ لأن الدماغ لن يقدر على معالجة المعلومات المكتسبة. ولكن في الحقيقة، يمكن تعلم لغتين في الوقت نفسه. أدمغتنا مُعدَّة لذلك؛ إذ يمكنها التكيف مع المهام الجديدة عند الحاجة أيضًا.

ويتمثل التحدي هنا في كيفية تقسيم الوقت والطاقة لتعلم كلتيهما؛ لأن تعلم لغة جديدة يتطلب نشاطًا عاليًا من الدماغ، ومن أساليب حفظ المفردات والقواعد والبنيات. ربما يكون هذا الأمر محيرًا لمن لا يستطيع تحمل هذا الجهد الإضافي، ولكنه ليس مستحيلًا!

وفي الختام...

الدماغ البشري عالم من العجائب التي تجعل البشر سادة هذا الكوكب. فهو يحمل تجاربنا وعواطفنا ويساعدنا على البقاء. وحان دورنا لتقديره والاستفادة منه إلى أقصى حد؛ باكتشاف مزيد من الحقائق، وعدم اتباع المفاهيم الخاطئة والأساطير عنه. ورغم أنها قد لا تكون ضارة الآن، فقد تؤدي إلى مزيد من المشكلات وتعوقنا عن تحقيق ما في إمكاننا تحقيقه.

الدماغ البشري لا يقدر بثمن، وقدراته لا حدود لها! فيجب أن نعتز بهذه الحقائق، ونعمل وفقًا لذلك.

المراجع

brainfacts.org

journals.sagepub.com

mayoclinic.org

ncbi.nlm.nih.gov

news-medical.net

psychologytoday.com

scientificamerican.com

verywellmind.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2025 | مكتبة الإسكندرية