المقالات

شلالات الدم وخندق ماريانا.. الطبيعة التي لا تكف عن إدهاشنا!

شارك

«انظر بعمق إلى الطبيعة، وبعد ذلك سوف تفهم كل شيء أفضل»، صدق ألبرت أينشتاين في هذه المقولة؛ فليس أعظم من الطبيعة ليُعلِّم الإنسان، ويساعده على فهم نفسه، وفهم الحياة من حوله، ثم فهم الكون كله في نظرة أكثر شمولية، تجعله يدرك مدى ضآلته، ومدى عظمة الخالق.

ونبدأ الحديث عن أحد المظاهر الطبيعية المثيرة للدهشة والتساؤل، والموجودة في القارة القطبية الجنوبية أو قارة أنتاركتيكا. تقع هذه القارة في أقصى جنوب الأرض، وهي آخر أرض اكتشفها الإنسان، كان ذلك في القرن 18، كما أنها أكثر مكان بارد على سطح الأرض؛ حيث تتخطى درجة الحرارة في الشتاء 60º تحت الصفر، ولذلك فهي غير مأهولة بالسكان، ويقتصر الوجود البشري فيها على بعض المراكز البحثية التي لا يزيد عدد قاطنيها عن 5 آلاف شخص في أقصى الظروف، كما أن وجود الطبيعة البرية بها محدد للغاية، إذ يقتصر فقط على بعض الطحالب والبكتيريا، وبعض الكائنات الحية مثل السوس والديدان والبطاريق والفقمات والدب القطبي، أما الغطاء النباتي فيتمثل في نبات التندرا، قصير العمر، المقاوِم لصعوبة الأحوال المناخية.

ووسط هذه البيئة القاسية، تتدفق شلالات الدم! نعم عزيزي القارئ، لقد قرأت جيدًا! تتدفق مياه حمراء قانية، يظن من يراها إنها شلالات من الدم! ثم يعرف بعد ذلك إنها شلالات ناتجة عن مادة أكسيد الحديد الذائبة!

تقع هذه الشلالات بين ضفاف نهر تايلور المتجمد شرق القارة القطبية المتجمدة؛ واكتشفت عام 1911 بفضل الباحث الجيولوجي توماس جريفيث تايلور، ومنه أخذ نهر تايلور اسمه. ويعود اللون الأحمر للشلالات إلى أكسيد الحديد الذي يتكون جراء تفاعلات الأكسدة بين عناصر مختلفة موجودة في المياه شديدة الملوحة بالمنطقة. وكانت هذه العناصر مُخزنة ومعزولة في جيوب ينعدم فيها الهواء والضوء منذ ملايين السنين. ولا يزال العلماء المقيمون في هذه المنطقة يعكفون على مزيد من الدراسات لتبيان الأسباب العلمية لتكوين هذه العناصر، ثم لانسيابها في قلب الجليد حتى أحالته سائلًا متدفقًا متلونًا بلونها الأحمر القاني في قلب الثلوج السميكة البيضاء، في مشهد لا مثيل له، يثير الذهول والإعجاب والتساؤل في آن واحد!

وإذا غادرنا سطح الأرض، وانتقلنا إلى أعمق محيطاتها، فسنجد إنه المحيط الهادي، الذي يمتد بطول الأرض وعرضها، ويعطيها بمساحته الهائلة أغلب لونها الأزرق الأخاذ الذي يذهل رواد الفضاء، ويزين صور الأقمار الصناعية. وفي قلب هذا المحيط الشاسع الواسع، ناحية سواحله في منطقة الشرق الأقصى، توجد أعمق نقطة على سطح الأرض، في «خندق ماريانا».

يبلغ طول خندق ماريانا نحو 2542 كم، ويبلغ عرضه 69 كم في أقصى عرض له، وهو هلالي الشكل، ويصل عمق أبعد نقطة فيه إلى أكثر من 11 كم تحت سطح البحر، وهذا معناه إنه في عمقه الهائل أكثر طولًا من أعلى قمة جبلية فوق سطح الأرض؛ وهي جبل إفرست الذي يبلغ طوله نحو 8.850 مترًا.

يعود اسم الخندق لجزر ماريانا المجاورة له والتي كانت مستعمرة إسبانية، وقد سُميت الجزر بهذا الاسم تكريمًا لماريانا ملكة إسبانيا، أرملة ملك إسبانيا فيليب الرابع. وتعد المنطقة بأكملها حاليًّا محمية طبيعية تقع تحت سلطة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كشفت البعثات العلمية المتعددة التي اجتهدت في سبر أغوار الخندق، حياة مزدهرة ومدهشة في هذه الأعماق السحيقة؛ فقد تكيفت المخلوقات البحرية فيه مع الضغط البحري الهائل، الذي يفوق الضغط عند مستوى سطح البحر بألف ضعف.

ولأن الغذاء شديد الندرة نظرًا لبُعد المضيق السحيق عن سطح الأرض، كما أن قليلًا ما تشق النباتات الأرضية طريقها إلى هذا العمق؛ فقد اكتشف العلماء أن الكتل الميكروبية فيه تتغذى على الهيدروجين والميثان الذي تطلقه التفاعلات الكيميائية بين ماء البحر والصخور. أما المخلوقات الأخرى، فتلتهم الكائنات البحرية الأقل منها في السلسلة الغذائية.

ويبقى خندق ماريانا، بعمقه الهائل، ومخلوقاته النادرة، وطبيعته البيئية القاسية، أحد أكبر مستودعات أسرار الطبيعة على وجه الأرض، وأحد آيات الله تعالى في كونه.

The cover photo is generated by Gemini.

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2025 | مكتبة الإسكندرية