المطبعة وأثرها في تحديث المجتمع المصري
|
رفاعة الطهطاوي |
مع تولي محمد علي حكم مصر في عام 1805 م بتفويض من السلطان العثماني وتحت ضغط شعبي، بدأت بوادر النهضة السياسية، والحربية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية تظهر إلى النور، وكانت لجملة محمد علي الشهيرة «تعليم العباد لعمار البلاد» الأثر السحري في نشر التعليم بين طبقات الشعب، حيث نجد الصلة والربط بين العباد والبلاد في المجال التعليمي، كما سبق وحدث في غيره من المجالات، وعليه فقد قام محمد علي بإرسال البعثات التعليمية إلى الخارج في فترة مبكرة من حكمه لتلقي العلوم في شتى جوانب المعرفة؛ فأولى ثمار المطبعة هو نشر العلم والمعرفة كسلاح للتقدم بين الأمم.
بدأت الطباعة بالعناية بالكتب الدراسية في العلوم العسكرية والطبيعية، خاصة في الطب والرياضيات جنبًا إلى جنب مع كتب العلوم الإنسانية، خاصة تلك الأعمال التي عمد رفاعة الطهطاوي إلى ترجمتها، ويلاحظ أن ترجمة هذا النوع من المؤلفات قد نشط خلال الأربعينات بعد أن تقلص الجيش المصري، وتبرز أهمية هذه الترجمات في أنها فتحت أكثر من باب في اتجاه تكوين المثقف الجديد في مصر ثقافة مدنية معاصرة.
كذلك لعبت المطبعة دورًا هامة في اتساع طبقة المثقفين أو طبقة «الأفندية» التي مثلت ركيزة أساسية في صناعة وتحديث المجتمع المصري من ازدياد إصدارات المطبعة في شتى المجالات . وقد أدى هذا إلى ازدياد عدد المدارس خاصة في عهد الخديوي إسماعيل، الذي أولى اهتمامًا خاصًا بتعليم الفتاة تأكيدًا على الدور المحتمل للمرأة في تلك الفترة، والمؤكد فيما بعد. في سنة 1873 م أنشأت السيدة جشم آفت هانم ثالث زوجات الخديوي إسماعيل مدرسة السيوفية، وكان بها نحو مائتي طالبة يتعلمن مجانًا، فضلاً عن الإنفاق على مأكلهن وملبسهن ويتعلمن القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم... الخ. فنلاحظ هنا أن التعليم الحكومي في عصر إسماعيل وإن استمر يسير على نفس الدرب والمنوال الذي رسمــه له محمد علي باشا من حيث كفالة الطلاب من خلال النظام الداخلي ومن ناحية توفير الوظائف لهم في الإدارة الحكومية إلا أنه اتخذ في هذا العصر طابعًا قوميًا وليس طابعًا عسكريًا كما كان في عهد محمد علي.
الوقائع المصرية
من ناحية أخرى أدى اتساع قاعدة طبقة الأفندية إلى ظهور بصماته واضحة وجلية على مجال الطباعة والنشر وكذلك الصحافة، فمع ازدياد عدد المدارس التي أُنشئت في عهد الخديوي إسماعيل، ازداد عدد المثقفين، مما أدى إلى التوسع الهائل في كمية الكتب المطبوعة سواء من قبل الحكومة، أو من قبل الملتزمين. وظهرت العديد من المطابع الخاصة سواء للمصريين أم للأجانب، وبذلك تحولت الطباعة من أداة حكومية تتحكم فيما تنشره للناس، بحيث يكون موافقًا ومسايرًا لسياستها إلى أداة مجتمعية في أيدي الشعب، حيث أصبح الكثير من أفراده على علم بما يجري في الداخل والخارج. ويتضح ذلك من كثرة عدد الكتب التي نشرت في عهد الخديوي إسماعيل، وأعداد الصحف التي طبعت في عصره، سواء أكانت حكومية مثل الوقائع المصرية، أم كانت أهلية وأولها وأهمها: صحيفة وادي النيل التي أصدرها عبد الله أبو السعود في 5 يوليو 1867 م. وكذلك انتشرت مطابع المصريين إلى جانب مطبعة بولاق تؤدي دورها في مسيرة التقدم والتطوير المستمر لثقافة المجتمع المصري، فعلى سبيل المثال أنشئت المطبعة الوهبية نسبة إلى منشئها وصاحبها مصطفى وهبي بن محمد الذي كان رئيس مصححي اللغة التركية بمطبعة بولاق في عام 1863 م، وقامت بطبع كتاب «مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح» ونلاحظ أن هذا الكتاب لا يتحدث عن الفنون الحربية، أو الأمراض الطبية، أو العلوم الهندسية، بل يتناول ما يمس حاجة الفلاح البسيط لتنمية زراعة أرضه.
لقد كانت مطبعة بولاق بداية لتاريخ الطباعة في مصر، فما بدأت المطبعة عملها، حتى تلتها مطابع أخرى كثيرة ...وكأن أهل مصر كانوا يبحثون عن باب المعرفة منذ أزمان بعيدة، وكانت مطبعة بولاق هي طاقة النور التي انتظروها طويلاً، فعرفوا من خلالها أن المطبعة هي طريق الخروج من عهود الظلام الطويلة التي رزحوا فيها أزمانًا إلى عهد جديد من الوعي بشرت به طباعة الكتب والصحف التي أخرجتها المطبعة ( مطبعة بولاق).
لقد كانت المطبعة بحق هي بوابة العبور التي اجتازت مصر عبرها عصرًا من الظلام والتخلف والضعف في كل جوانب الحياة إلى عصور أخرى تشرق فيها شموس المعرفة والازدهار والقوة في جوانب الحياة المختلفة .. فكان لها الأثر الجليل في حياة المصريين مزارعين ومثقفين، بسطاء ورجال دولة، فقراء وأغنياء، فالعلم هو الوسيلة التي يرقى بها الإنسان إلى مرتبة التقدم والرقي.
|