لغز الحضارة الإنسانية - الحلقة الثانية

شارك

البدين جدًّا، والقصير جدًّا، والطويل جدَّا، أثاروا داخلك العديد من التساؤلات حول كوكب الأرض، وتطور الحياة على سطحه، وموضوع الحضارة الإنسانية؛ ذلك الموضوع الذي أثاروا فضولك عنه لتبحث، وتقرأ، وتسأل: كيف تطورت تلك الحضارة وتغيرت صعودًا وهبوطًا عبر التاريخ؟

بعد أن اختفوا من أمامك وقتما فُتِح باب الغرفة – رغبة منهم عن عدم مقابلة أحد غيرك – قمت متلهفًا تبحث عنهم بعد إغلاق باب الغرفة مرة أخرى، تنظر أسفل سريرك، وداخل دولاب ملابسك، ووراء المكتب، أو خلف الستائر، ولكن، لا أثر لهم. تعود لتكمل نومك الذي يستعصي عليك بسبب ما جرى وما رأيت.

تتساءل؛ أين ذهبوا؟ هل كنت أهذي؟ هل كان ذلك حلمًا؟ وفجأة، تنتابك رجفة شديدة بعد أن تراهم ملتصقين بسقف الغرفة بدون عناء، وبدون أن تلامس أطرافهم السقف، وقد تغير لونهم من الأخضر إلى البرتقالي، مما يزيد من رهبتك. تجلس رافعًا رأسك إليهم محاولاً النطق فلا تستطيع، فهم من بدأوا الحديث؛ حيث بادر الطويل مبتسمًا: أهلاً أيها الصديق. ألا تريد أن تصعد إلينا؟

ترد على سؤاله بسؤال متجاهلاً طلبه الغريب: أين ذهبتم؟ وكيف تغير لونكم؟ يرد القصير جدًّا بأسلوبه الفكاهي وكأنه إنسان آلي: نحن لم نذهب إلى أي مكان، فأنت هدفنا وقد تم اختيارك بشكل عشوائي، ولا يمكننا تركك قبل إتمام مهمتنا. ينظر البدين جدًّا إلى أصدقائه، ويلاحظ فعلاً تغير لونهم فيشير إليهم بعلامة غريبة بقدمه اليسرى، فيعودون مرة أخرى إلى لونهم الأخضر. ولكنهم يظلون معلقين بالسقف فتكمِل تساؤلاتك: ما هذا الذي حدث؟ كيف تقدرون على تغيير لونكم؟ وما هي المهمة التي أتيتم من أجلها؟

يجيبك الطويل باهتمام: نحن نحب كوكبكم، ونريد منكم أن تعودوا إلى رشدكم، وتسكنوا هذا البيت الأزرق الجميل كأفراد سرب واحد أو قطيع واحد. تقاطعه معترضًا على هذا التشبيه: مهلاً مهلاً! نحن البشر أرقى المخلوقات، ولا يجوز إطلاق لفظة سرب أو قطيع على بني البشر. يتدخل البدين معترضًا على اعتراضك: أيها الإنسان الجميل، نحن لا نقصد الإهانة. بل يقصد صديقي التشبيه، وكيف أن سلوك بعض الأسراب أو القطعان سلوك متوازن؛ فهي تعيش  بانسجام مع الطبيعة، وهذا الأسلوب لم يؤدِّ إلى – كما ترى – انقراضكم. بل إن سلوك بعضكم هو ما أدى إلى انقراض كثير منهم.

يتدخل القصير جدًّا موجهًا كلامه إلى البدين: معك حق. إذا تمادى بنو الإنسان على ما هم عليه، فإنهم حتمًا سيواجهون مصير الانقراض. تسأله مستنكرًا: كيف يتسبب الإنسان في انقراض الإنسان؟ وأرجوكم هل من الممكن أن تهبطوا، فقد تسرب الألم إلى رقبتي، وأنتم لم تجيبوا بعد عن سؤالي حول كيفية تغيير لونكم.

يجيبك الطويل جدًّا: نحن مخلوقات خاصة، ولدينا هذه الخاصية بجانب خصائص أخرى قد تعتبرها أنت خارقة. ونحن نتمتع جميعًا بصحة جيدة، ولم يتسلل إلى كوكبنا الوهن والضعف كما حدث على كوكبك. فأنتم بنو الإنسان – سُكان الكوكب الأزرق – لم تتبعوا أبسط القواعد للحفاظ على صحتكم العامة وصحة جنسكم، لم تحافظوا على "صحة الإنسان".

تسأل متهكمًا: كيف ذلك؟ فهناك أسباب خارجة عن إرادة الإنسان تؤثر على "صحة الإنسان". فيلحق بك الطويل جدًّا مهدئًا إياك ومخففًا من حدة انفعالك: اهدأ يا صديقي، نحن نتناقش وأنت معك حق فيما يخص العوامل أو الأسباب التي قد تؤثر على الصحة. ومن الممكن أن نذكر لك بعضًا منها؛ العوامل البيئية مثلاً سواءً كانت طبيعية؛ مثل: الحالة الجغرافية، والارتفاع عن سطح البحر. والحالة الجيولوجية؛ مثل: نوع التربة، والتي تحدد نوع غذائكم، والمياه، والمناخ، والرطوبة، وحركة الرياح، وهذه كلها من الممكن أن تؤدي إلى بعض الأمراض الموسمية.

تندهش كما في السابق ويزيد اندهاشك مع دوران القصير جدًّا حول نفسه بشكل رأسي فيصمت الطويل جدًّا، ويعطي الكلام لهذا البدين، فتفهم أن الحركة التي قام بها هي لغة تخاطب فيما بينهم. قال البدين: لا تنسَ البيئة البيولوجية، والبيئة الاجتماعية والثقافية؛ مثل: كثافة السكان، وتوزيعهم، ومستوى التعليم عندكم، والذي يؤثر على مقدار الوعي الصحي، والسلوك الصحي، وانتشار الأمراض، وطرق الوقاية منها، والتعاون فيما بينكم لمواجهتها. ترد وقد نسيت أمر تغيير ألوانهم، وتحدثهم وكأنك تحدث بشرًا مثلك: أنا فعلاً متفق تمامًا معكم و"صحة الإنسان" تتأثر كذلك بمستوى التغذية، وأسلوبها، ونوعها. ولكن – بمناسبة التغذية – هل أنتم تأكلون وتشربون مثلنا؟

يرد عليك البدين جدًّا: أبدًا، نحن لا نأكل ولا نشرب. فتجيبه مندهشًا ومازحًا، فقد زالت عندك الرهبة من أشكالهم: وطالما أنكم لا تأكلون ولا تشربون؛ فلماذا أنت بدين جدًّا بهذا الشكل؟ وهذا الآخر الطويل جدًّا؛ لماذا هو نحيف هكذا؟ يجيبك الطويل: البدانة والنحافة في كوكبنا هناك؛ ليست لها علاقة بالتغذية؛ فنحن نستطيع أن نتبدل كما نريد في أشكالنا، ونحن كما نتلون نتشكل هل تحب أن ترى؟ ينتابك الخوف من عرضه هذا وتقول له: لا داعٍ، ولكن من الأفضل أن أكمل كلامي الذى قد تكونون على علم به.

تتحدث بما لديك من معلومات: إن للتغذية أهمية كبيرة على صحة الفرد كبيرًا كان أم صغيرًا. ولذلك فقد نال موضوع التغذية عناية كبرى من جانب المتخصصين على كوكبنا في ميدان التغذية والمسئولين عن صحة الأطفال، و"صحة الإنسان"، والصحة العالمية بشكل عام؛ حيث تبين لهم أن أغلب المجتمعات لا تعرف المفهوم الصحيح للتغذية مما يؤدي إلى ظهور أجيال ضعيفة تعاني من أمراض سوء التغذية؛ مثل: الكساح، ولين العظام، وتسوس الأسنان، والإسقربوط، والبرِّي برِّي، والقشرة في العين، والأنيميا، والهزال.

ولذلك فقد اتجهت الجهود في معظم الدول المتقدمة من أجل توفير اللحوم، والطيور، والألبان، والبيض، والأسماك، والمحاصيل النباتية من فواكه، وخضروات، والعمل على تخفيض أسعارها؛ لتكون في متناول الفقراء، وذلك لتجنب الإصابة بالأمراض والنهوض بالمستوى الصحي لجميع أفراد المجتمع.

تتوقف عن كلامك فجأة بعد أن رأيتهم ينظرون ناحية الشباك في وقت واحد.

رسوم محمد خميس.

الحلقة منشورة في مجلة كوكب العلم، عدد ربيع 2014.

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية