منذ آلاف السنين، أثناء العصر الذهبي للبحث العلمي في القرن الثالث قبل الميلاد، كانت مدينتنا الإسكندرية في مصر البطلمية أعظم مركز للدراسة والمنح الدراسية في العالم. فكانت الإسكندرية مركزًا للمعرفة والاستكشاف، وموطنًا لمكتبة الإسكندرية الملكية التي كانت أكبر وأهم مكتبة في العالم القديم، ومتحف الإسكندرية الذي كان مركزًا رئيسيًّا للأبحاث الطبية في العالم حينذاك.
كان هيروفيلوس وإيراسيستراتوس من أهم الباحثين الطبيين في المدينة، وقد حققا معًا إنجازات عظيمة في التشريح والطب. ولكن، على الرغم من إسهاماتهما العظيمة، فإن إرثهما يكتنفه كثير من الجدل والاتهامات الخطيرة؛ فاتُهما بجريمة مخزية هي تشريح البشر وهم على قيد الحياة.
ولد هيروفيلوس الشهير بلقب «أبي التشريح» في عام 335 قبل الميلاد في مدينة خلقيدون بآسيا الصغرى، وتوفي في عام 255 قبل الميلاد. سافر إلى الإسكندرية ليبدأ ممارسة الطب وليبدأ أبحاثه؛ حيث اهتم بدراسة التشريح العام، واكتشف بعد مدة أن الطريقة الوحيدة لدراسة تشريح الجسم البشري هي أن يصبح أول شخص يقوم بتشريح منهجي على الجسم البشري؛ مفترضًا على الجثث.
في الإسكندرية، عاش هيروفيلوس في بيئة لا تستنكر بصفة عامة تشريح الجثث البشرية أو تعتبره محرمًا. فأصبحت طريقته أداة بحث قوية منحته مزايا لم تكن متاحة من قبل لطلاب تشريح الجسم البشري، الذين بنوا رؤاهم على الأدلة غير المباشرة والتخمين.
ومن خلال شغفه الكبير بهذا الموضوع، جعلت اكتشافات هيروفيلوس منه طبيبًا مشهورًا. وبعيدًا عن ممارسته لمهنته، قام هيروفيلوس بكتابة نحو إحدى عشرة وصفة طبية، ولكنها فقدت للأسف جرَّاء الحريق الهائل بمكتبة الإسكندرية القديمة عام 391 إذ كانت تحفظ بها أعماله. على الرغم من ذلك، فقد توارثت الأجيال التالية اكتشافاته في مجال التشريح؛ حيث قدمت معلومات قيمة لفهم المخ والعين والكبد والأعضاء التناسلية.
نُسب إلى هيروفيلوس أدق وصف للجهاز التناسلي حتى العصور الوسطى؛ ولكن أهم اكتشافاته كانت عن الجهاز العصبي. فكان أول من فرَّق بين الأعصاب والأوعية الدموية والأوتار، واكتشف أن الأعصاب تنقل نبضات عصبية. وبعد اكتشافه أن شبكة الأعصاب المنتشرة في كلِّ الجسم مركزها المخ، استنتج أن المخ هو العضو المتحكم في الإنسان؛ إذ «تتم من خلاله جميع الأنشطة الجسدية». ويتعارض هذا الاكتشاف مع افتراض أرسطو بأن القلب هو مصدر التفكير، وقد كان الاعتقاد السائد حينذاك. فحلت اكتشافات هيروفيلوس محلَّ اكتشافات أسلافه؛ حتى أن الكتاب الطبيين مثل الطبيب الروماني جالين من بيرغامون قد اعتمد تفسيره عوضًا عن تفسير أرسطو.
ولد إيراسيستراتوس، وهو تلميذ هيروفيلوس وزميله الأصغر سنًّا، في عام 304 قبل الميلاد على جزيرة كوس. قبل سفره إلى الإسكندرية والعمل مع هيروفيلوس، عمل طبيبًا ملكيًّا في بلاط سيليوكوس الأول في بلاد ما بين النهرين. وقد حقق إنجازات هامة في مجال التشريح؛ فأكمل دراسات وأبحاث هيروفيلوس، ووصف المخ بشكل أدق؛ مميزًا بين المخ والمخيخ وبين الأعصاب الحسية والحركية.
وكان إيراسيستراتوس أول من محا الفكر الشائع بأن الأعصاب جوفاء ومليئة بالهواء؛ فأثبت أنها صلبة وتتكون من نخاع العمود الفقري. وفي دراسته عن القلب ووظائفه، ميز بين الدورة الدموية الرئوية والدورة النظامية؛ ويبدو أنه قد أوشك على اكتشاف الدورة الدموية التي اكتشفها الطبيب الإنجليزي ويليام هارفي لاحقًا عام 1628.
خلال القرون التي تلت أعمال هيروفيلوس وإيراسيستراتوس، أثيرت الشكوك حول شرعية الطرق التي استخدماها. وبدأت بعض الروايات في الانتشار بأن الأجسام التي قاموا بتشريحها كانت لأشخاص لا يزالون على قيد الحياة. فاتهم بعض الأطباء مثل كورنيليوس سيلسوس وجالين كلًّا من هيروفيلوس وإيراسيستراتوس بإجراء عمليات تشريح على المجرمين الأحياء، الذين كان حاكمو الإسكندرية يمنحونهما إياهم.
وقد دوَّن سيلسوس الذي لم يشهد عمليات التشريح على الأحياء المزمعة بعد مرور 250 عامًا على وفاة هيروفيلوس أنه قد تم تشريح المجرمين وهم أحياء و«لا يزالون يتنفسون». وفي القرن التالي، أطلق تيرتوليان على هيروفيلوس لقب «السفاح» مشيرًا إلى أنه كان يقوم بعمليات تشريح على الأحياء. ومن المرجح أن تلك الاتهامات هي السبب الرئيسي في عدم تلقيه التقدير اللائق على اكتشافاته العلمية فيما يخص الجسم البشري مثل زملائه هيبوقراط وجالين وفيزاليوس.
وسواء قام هيروفيلوس وإيراسيستراتوس بتشريح الأجسام حية أم لا، فإن الاتهامات الشنيعة التي وجهت إليهما قد أكدت حظر التشريح في الغرب حتى عصر النهضة؛ حينما سمحت التغيرات الاجتماعية والعلمية لعلماء التشريح بممارسة التشريح على الجثث البشرية مرة أخرى.
لا شك أن الأبحاث الهامة التي تمت في الإسكندرية خلال القرن الثالث قبل الميلاد كانت ذات بصمة خاصة في تاريخ الطب والعصور القديمة. فقد ظلت الاكتشافات التي قام بها كلٌّ من هيروفيلوس وإيراسيستراتوس قمة للمعرفة التشريحية لألف وخمسمائة عام.
*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد صيف 2017.
المراجع
encyclopedia.com
historyinanhour.com
ncbi.nlm.nih.gov
exhibits.hsl.virginia.edu