شتهر الملك ميداس في الأساطير اليونانية بسوء الحكم في الأمور؛ فعندما طلب من الإله ديونيسوس أن يمنحه القدرة على تحويل كل ما يلمسه إلى ذهب وحقق له الإله تلك الأمنية، ظن أن هذا من حسن الحظ وأنه سيصبح ثريًّا. ولكن سرعان ما أدرك عواقب تلك الهبة – أو بالأحرى اللعنة – عندما خرج الأمر عن سيطرته، وتحول طعامه وأحباؤه إلى ذهب!
وفي قصة الملك ميداس وسوء تقديره للأمور، يمكننا أن نرى أصداء واضحة لما نشهده في واقعنا اليوم؛ فكلما زاد ولعنا بالآلات الذكية، نغض الطرف عن قيمنا الإنسانية.
يرجع بداية ظهور مجال الذكاء الاصطناعي (AI) إلى خمسينيات القرن الماضي؛ حيث عمل مجموعة من العلماء على تطوير آلات ذكية مستقبلية تحاكي الذكاء الطبيعي (NI) لدى البشر والحيوانات. فكان هدفهم الوصول إلى حل للمشكلات التي تواجه الإنسان؛ عن طريق محاكاة الوظائف المعرفية للعقل البشري مثل التعلم وحل المسائل.
واليوم، لم يعد الذكاء الاصطناعي أمرًا مستقبليًّا، بل حقيقة نراها في منازلنا وأماكن عملنا وفي كلِّ مكان. تلك التكنولوجيا لديها قدرة على إدراك الأصوات والصور، وفهمها ومعالجتها صوتيًّا أو معلوماتيًّا، والاستجابة لها وفقًا لذلك. وأنظمة الذكاء الاصطناعي الآن قادرة على التعلم والتكيُّف مع المواقف الجديدة بطريقة شبيهة بالإنسان؛ إلا أنها تغفل القيم الانفعالية الإنسانية؛ لأنها لم تُعَد للقيام بذلك.
في مجال العمل، على سبيل المثال، حلَّت أجهزة الكمبيوتر الذكية مشكلة الإحساس الدائم بعدم وجود وقت كافٍ لإنهاء العمل؛ حيث يمكنها إنجاز بعض المهام لتمنحك وقتًا إضافيًّا لأداء مهام أكثر أهمية. ويمكننا أن نرى الذكاء الاصطناعي أيضًا عند الاتصال بفريق خدمة العملاء المدعوم بجلسات الدردشة الحية للرد على أسئلة العملاء الأساسية.
هكذا ظهر هذا التساؤل بين البعض: «هل يمكن أن يحتل الروبوت مكان الإنسان في مجال العمل؟» خشية أن تحل أنظمة الذكاء الاصطناعي محل الإنسان يومًا ما. إلا أن القضية الأساسية تكمن في مسألة الإحلال؛ لأن الروبوتات العاملة قادمة لا محالة. عوضًا عن ذلك، علينا أن نتساءل «هل نحن مستعدون لمواجهة تحديات الآلات الذكية على نحو متزايد؟». وعن إجابة السؤال الأول، عليك التفكير بشكل إيجابي في عدد الوظائف الخطيرة التي قد لا يضطر الإنسان إلى القيام بها بعد الآن عوضًا عن التفكير في أن الذكاء الاصطناعي يستلبنا وظائفنا!
فقد يخشى البعض أن يؤدي تمكين الذكاء الاصطناعي إلى ثورة الروبوتات ضد البشر في المستقبل. إلا أن العلماء يوضحون أن تلك الأجهزة لا تقوم بعمل ما إلا إن كانت مهيأة له؛ فعلينا التأكد من أن تلك الأجهزة مهيأة للقيام بكلِّ ما هو مفيد للعالم. وعلى غرار رغبة الملك ميداس في تحويل كل شيء إلى ذهب، قد يهدد الذكاء الاصطناعي البشرية إن استمر في التطور بلا هوادة؛ فمثلما يستخدم في الخير قد يستخدم في الشر.
وتكمن مشكلة محاذاة القيم البشرية مع أنظمة الذكاء الاصطناعي في اختلاف تلك القيم بين البشر؛ فعلينا تحديد ماهية تلك القيم أولًا. فالبشر يفهمون القيم الانفعالية والعاطفية التي هم على دراية بها، ولكن يصعب ضمان برمجة الروبوتات لتلك القيم أيضًا.
وتختلف القيم الإنسانية وفقًا لمتغيرات عدة؛ بما في ذلك الاختلافات الثقافية والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية. فما يُعد خيرًا لشخص ما قد يكون شرًّا لشخص آخر؛ وذلك هو التحدي الحقيقي الذي يجب أن ندركه. وهذا الرأي قد أثاره عالم الكمبيوتر البريطاني الأمريكي ستيوارت راسل، أستاذ علوم الكمبيوتر ومؤسس مركز الأنظمة الذكية بجامعة كاليفورنيا؛ حيث صاغ أول رسالة مفتوحة تدعو الباحثين إلى النظر إلى ما وراء الهدف من تمكين الذكاء الاصطناعي فقط.
لذلك يعمل العلماء الآن على هذا الاحتمال من خلال دعوة الأفراد إلى المشاركة في صياغة طبيعة القيم الإنسانية التي يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى فهمها، وتحديد ما يعنيه محاذاة الذكاء الاصطناعي بأهدافهم الحياتية، التي تتماشى في الوقت نفسه مع آمال الجميع حول العالم.
قبل عقد من الزمان تمنينا أمنية وتمكنَّا من تحويلها إلى واقع، ومنذ ذلك الحين استبدلنا التكنولوجيا بكلِّ شيء في حياتنا. ولكننا لم ندرك حينها إن كانت تلك الأمنية سوف تؤذي أحدًا في المستقبل أم لا؛ في محاولة مضللة لينفذ الذكاء الاصطناعي كلَّ ما يُطلب منه. مع ذلك، نُعد أكثر حظًّا من الملك ميداس؛ لأننا لسنا أسطورة أو آلة فحسب؛ وإنما بشر، وما زالت أمامنا الفرصة لتحويل أمنياتنا إلى أعمال صالحة.
*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد ربيع 2018.
المراجع
futureoflife.org
pedersenandpartners.com
ibm.com
forbes.com