إنها لفكرة مستبعدة – إن لم تكن مرفوضة تمامًا – أن يربط المشاهد العادي بين الفنان الذي أبدع إحدى الأعمال الفنية التي يراها وبين أي فرع من فروع العلوم. غير أن العلاقة الوطيدة التي تجمع بين إنتاج الأعمال الفنية وبين جدائل العلوم والطبيعة قد تكون أكثر قوة مما قد يظن كثيرٌ منَّا.
فمنذ بدء التاريخ في مصر القديمة، عكف الفنانون على دراسة طبيعة الأحجار، والمعادن، والأخشاب، وغيرها؛ فأتقنوا معاملة تلك المواد الطبيعية للوصول إلى أعلى المستويات الفنية الممكن تحقيقها باستخدام كلٍّ منها. وعلاوة على ذلك، فقد لاحظوا الظواهر الطبيعية ووُلد من بينهم علماء ضالعين في الفلك، والهندسة، والعمارة. ومن ثَمَّ، استطاعوا توجيه مباني المعابد الضخمة لتوازي الأبراج السماوية، واستحدثوا في أبنيتهم الفتحات التي تسمح بدخول ضوء الشمس لتنير وجه تمثال الملك في الحرم المقدس داخل المعبد، وذلك – بدقة مثيرة – في يوم محدد وساعة محددة من العام.
ومن الصعب حتى يومنا هذا أن تجتمع الفنون والعلوم في جملة واحدة دون أن يطرأ ليوناردو دافينشي على خاطر المرء في لحظتها. فالحقيقة أن الفنان، والمهندس، والعالم دافينشي قد أصهر تلك الفروع وغيرها في كينونة واحدة يشهد عليها الإرث العظيم الذي خلفه من لوحات ومخطوطات.
فقد بنى دافينشي على جهود من سبقوه الذين استخدموا قوانين الهندسة والمنظور في الرسم، ليعلن بذلك الرسم علمًا من العلوم. بل وتخطى ذلك أيضًا، "... فقد كان يؤمن بأن الرسَّام – متمتعًا بقدرات إدراكية دقيقة وقدرة كاملة على تصوير ما يدركه – هو أكثر شخص مؤهل لجني المعارف الحقيقة؛ حيث يكون قادرًا على الملاحظة الدقيقة وعلى إعادة إنتاج العالم من حوله بعناية .... فعند قيامه بوضع قاعدته الخاصة بالتمثيل الجرافيكي – والتي أطلق عليها "البراهين" (dimostrazione) – كانت أعمال ليوناردو البشائر التي سلفت الرسوم العلمية الحديثة"(1).
وإن انتقلنا إلى نطاق زمني أحدث، فوفقًا للركائز العلمية لقوانين البصريات، فإن اكتشاف التصوير كان "مهمًا بحيث أجبر الفنانين من يومها على تغيير الطريقة التي كانوا يتبعونها في الرسم قبل ذلك"(2). "ولقد سرَّع تطور التصوير في أواخر القرن التاسع عشر من وتيرة الإنتاج. وقد كانت مسألة وقت فقط حتى تتطور الأفلام - بوصفها الخطوة التالية في التقدم نحو التصوير الأكثر دقة في التواصل الإنساني - إلى درجة كبيرة من النضج.
فما تأثير تلك الأشكال الفنية الجديدة وأهميتها؟ لقد تفهَّم ]والتر[ بنجامين أهمية إمكانية انتشار وسائط التواصل والفنون - والكامنة في تطور مجال إعادة الإنتاج المميكنة - تفهَّم أهميتها وعظم من شأنها. فالعمل الفني الذي لم يتمكن مشاهدته قبل ذلك إلا الأغنياء داخل أبهية المتاحف والمعارض الفنية أصبح من الممكن إعادة إنتاجه بتكلفة قليلة وإتاحته لعددٍ أكبر بكثير من الناس.
وقد أشار ورود الجرائد المصورة قليلة التكلفة إلى أن الأحداث الجارية قد أصبحت الشغل الشاغل للجماهير، وقد سمحت الأفلام بتسجيل حدثٍ أو عرضٍ ما وإتاحته لعدد غير محدود من المشاهدين. لقد جعلت إعادة الإنتاج المميكنة من إشراك الجماهير في الثقافة والسياسة أمرًا ممكنًا؛ ومن ثَمَّ مهدت لكلٍّ من الثقافة الجماهيرية والسياسة الجماهيرية"(3).
كانت هذه مجرد نبذة عن الصلة الوثيقة بين الفنون والعلوم. وفي الأعداد التالية، سنتطرق إلى حالات محددة نستكشف من خلالها تلك الأواصر عن كثب.
*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد شتاء 2014.
المراجع
1. britannica.com/EBchecked/topic/336408/Leonardo-da-Vinci/59780/Art-and-science-the-notebooks
2. visual-arts-cork.com/history-of-art/impressionism-origins-influences.htm
3. ejumpcut.org/archive/onlinessays/JC15folder/WalterBenjamin.html