الفنون والعلوم يبدوان كقطبي المغناطيس؛ كلٌ منهما يسير في اتجاه معاكس للآخر، لا يلتقيان. فهما مختلفان في طرق عملهما وفي نتائجهما؛ فالفن يعتمد على الخيال، في حين تعتمد العلوم على الحقائق. مع ذلك، وفي أزمنة مختلفة، يتناغمان سويًّا ويساهمان في تحقيق نتائج قوية وباهرة، وغريبة أحيانًا. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فمنها: كروية الأرض، والجاذبية، وعديد من الأجهزة والأسلحة التي اعتمدت على خيال الفنان وحقائق العالم.
يُعد الفن الحيوي أحد هذه الأمثلة المثيرة والغريبة؛ فهو أحد المجالات الحديثة التي تعبر عن قمة التناغم بين الفنون التشكيلية والعلوم الحيوية. ويُعد الفن الحيوي ممارسة فنية تستخدم الأنسجة الحية، ووسائط البكتريا، والعلوم الوراثية، والعمليات الحيوية كأدوات فنية، بدلًا من الريشة، والألوان.
هو فن لا يمكن بيعه أو اقتناؤه؛ فهو متغيِّر، يختلف كل يوم عما سبقه، كما يتأثر بالضوء والحرارة؛ ويبدأ حيًّا ثم يموت مع الوقت. يُنتج هذا النوع من الفن في المعامل أو في مراسم الفنانين على حدٍّ سواء؛ فيحتاج إلى بيئة نظيفة ومعقمة حتى يتمكن صانعه من التحكم فيه. يتعامل البعض مع هذا الفن كألوان وتداخلات لونية مختلفة، في حين يوظف البعض الآخر بعض الصور والأشكال المختلفة ونوعية الفطريات والبكتريا؛ لتقديم رسالة أو فكرة من خلال نمو هذه الكائنات وتطورها.
أول من قام برسم صور حيوية العالم الاسكتلندي ألكسندر فلمنج، الذي كان يهوى الفن؛ فمن خلال رسمه لأحد الوجوه اكتشف البنسلين صدفة، فساهم في إنقاذ ملايين البشر. كان فلمنج يرسم الجنود، والأمهات تغذي الأطفال، والمنازل، وغيرها من المشاهد باستخدام البكتريا. وكان ينتج هذه اللوحات من خلال تلوين بعض البكتريا بالأصباغ الطبيعية، ثم يملأ الأطباق الزجاجية بوسيط يساعد على نمو البكتريا (Agar)، وهي مادة شبيهة بالجيلاتين، ثم يستخدم أداة مختبرية ليقوم بالزراعة بأنواع مختلفة. كانت هذه الطريقة صعبة للغاية؛ فكان على فلمنج العثور على البكتريا والميكروبات بأصباغ مختلفة.
اشتهر هذا الفن في نهايات القرن العشرين من خلال أعمال فنانين رواد مثل جون ديفيس وإدوارد كاك. وقد حقق كاك شهرة عالمية عندما استعان بالهندسة الوراثية؛ ليجعل أرنبًا يضيء في الظلام عن طريق حقن بويضة أرنب بمادة فلوريسنتية خضراء؛ مما أثار حفيظة بعض المشاهدين والنقاد لتقبُّل هذه الممارسات في الفن. بعد ذلك عرض أحد أعماله في سنغافورة تحت عنوان «نماذج سرية حول اكتشافات رائعة» في عام 2006؛ حيث تكوَّن العمل الفني من ستة نماذج زجاجية تحتوي على تربة بها ترسبات شحمية وكائنات حية دقيقة تكوِّن أشكالًا متغيرة. يقول كاك: «في الستينيات، كان الفنان يأتي بالنباتات إلى قاعة العرض، ولكن الفن الحيوي يستغل النباتات، ويتحكم فيها، ويغير فيها ليقول شيئًا».
أما أشهر من اقتحم هذا المجال في مصر والوطن العربي فهي الفنانة المصرية هبة العزيز، وهي فنانة تشكيلية معاصرة تهتم بالوسائط التجريبية وخاصة الوسائط الحيوية. تخرجت في كلية التربية الفنية ثم حصلت على درجة الدكتوراه في الفن الحيوي، وشاركت في عديد من المعارض والورش الفنية الدولية بتجاربها عن الفن الحيوي، كان آخرها الدورة الثامنة من «بينالي كتاب الفنان» بمكتبة الإسكندرية عام 2018.
تقوم الفنانة هبة العزيز بعمل مزارع معقمة من بعض أنواع البكتريا غير الضارة، وذلك داخل الأطباق الزجاجية المغطاة والمخصصة للمعامل. وقد قامت بتطوير أعمالها من مجرد عرض لوني للبكتريا تحت تأثير الضوء والحرارة، ولكنها استخدمت صورًا لشخصيات مهمة ومؤثرة في العالم؛ لتقوم بنقل صورهم إلى الوسيط المناسب لنمو البكتريا. وتقوم بزراعة الأنواع التي تستخلصها متحكمة في لون البكتريا، ومكان زراعتها على الشكل؛ ليتطور حتى يعطي تأثيرات مختلفة.
الحقيقة أننا لا نعلم إلى أين يصل بنا هذا التطور الرهيب في مجال الفنون وارتباطه بالعلوم المختلفة، والذي يفاجئنا كل يوم بما هو جديد ومختلف. وقد يتفق معه البعض وقد يرفضه الآخرون، فعلى المتلقي أن يحكم كيف يستقبل هذه النوعيات الجديدة من الفنون وكيف يتعامل معها.
المراجع
طارق قابيل، الفن الحيوي... تزاوج الفن وعلوم الحياة، مجلة العربي الكويتية، 2017
محاضرة الفنانة هبة العزيز TEDx
smithsonianmag.com
alghad.com
*المقال منشور بمجلة كوكب العلم، خريف 2018 «العلم والفن».