حفل تاريخ الإنسانية بمآسٍ وأهوال قاساها أهل العلم في مواجهة التطرف والتعصب، وتمتلئ سجلاته بمشاهد مفزعة ومحزنة في آنٍ واحد لعلماء قضوا نحبهم قتلًا، أو حرقًا، أو تنكيلًا لكونهم فقط يؤمنون بالعلم، ويعملون به، ولا يقبلون منهجًا سواه.
فتشي سجلات محاكم التفتيش في أوروبا في الفترة بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر على إعدام الملايين من الأبرياء من الرجال والنساء بتهم تتأرجح بين الهرطقة والسحر. فقد كانت هاتان التهمتان هما السبيل الوحيد لإزاحة أي معارض تسول له نفسه أن يعلن ما لا يرضى عنه السادة، سواء أن كان هؤلاء السادة من أهل السلطة أو من رجال الدين الموالين للسلطة. وكان العلماء هدفًا مباشرًا لهذه المحاكمات البغيضة؛ فحديثهم يدعو بالضرورة إلى الهرطقة والكفر؛ مما يستوجب أفظع أنواع العذاب وأشنع أنواع العقاب.
كان هذا في العصور الغابرة التي نطلق عليها «العصور الوسطى»، والتي دفعت فيها الإنسانية ثمنًا باهظًا قبل أن تتحرر وتثور على هذا الظلم الفاحش، وتنطلق نحو آفاق التحضر والمدنية. إلا أن العصور الوسطى لم تكن البداية الحقيقية لاضطهاد العلماء؛ فقد بدأ الأمر قبل ذلك بمئات السنوات، يوم أن عرفت البشرية العلم والعلماء، وفي الوقت نفسه وبالتزامن، كان التطرف الفكري قد بدأ يطل برأسه معارضًا إياهم، وكان التطرف الديني قد بدأ يشرئب بعنقه لينتزع لنفسه مكانًا بقوة العنف، هادفًا إلى إزاحة العلم الذي يختلف منهج تناوله القائم على الشك عن منهج تناول الدين القائم على اليقين، ومن ثم يكون الاستغناء عنه وعن أهله مطلبًا ملحًّا يجب تنفيذه فورًا.
هنا، نرنو إلى أفق التاريخ، فتطل علينا ذكرى «هيباتيا»، بجمالها الراقي، وعلمها البارع، وذكائها الساطع؛ هيباتيا السكندرية المصرية؛ الأستاذة العالمة، والفيلسوفة المتميزة، والإنسانة الفاضلة، التي تدثرت بالعلم، ولم تعتنق سواه، ولم يستطع جلادوها المتوحشون إجبارها على غير ذلك. هيباتيا ابنة ثيون، التي ولدت في حوالي عام 370م، ولقيت حتفها التراجيدي في حوالي عام 415م، والتي نشأت في بيئة علمية بامتياز؛ فقد تفتحت عيناها على الدنيا لتجد والدها عالم الرياضيات ثيون مديرًا لمكتبة الإسكندرية.
كان ذلك بعد أن أصبح مقر المكتبة الرسمي هو المكتبة الابنة داخل معبد السيرابيوم بعد أن دُمرَت المكتبة الأولى التي كانت تقع في الحي الملكي المطل على شاطئ البحر، وجميع ملحقاتها ومبانيها، خلال الصراعات والمعارك المتلاحقة التي لم يكد أهل الإسكندرية يتخلصون من إحداها حتى تلاحقهم الأخرى. وعليه، كان معبد السيرابيوم غرب مدينة الإسكندرية - وموقعه حاليًّا كوم الشقافة بكرموز - هو الملاذ لمئات اللفائف والبرديات. كما انتقلت إليه دروس العلم؛ فاقتسم مع المسرح الروماني - بكوم الدكة حاليًّا - وبعض الأماكن الأخرى التي اندثرت فصول العلم وعمل أساتذته المتخصصين، وكان أغلبهم من المصريين، بعد أن هرب ما تبقى من العلماء الأجانب كنتيجة مباشرة للصراعات المسلحة.
تأثرت هيباتيا تأثرًا عميقًا ومباشرًا بعلم والدها وثقافته، وتأثرت بشكل أبرز بتخصصه في علم الرياضيات؛ فبرعت في هذا العلم، وشاركت والدها في تأليف عدة كتب قاما فيها معًا بنقد وتحليل كتاب «العناصر» لإقليدس، وكتاب «المِجَسْطيّ» لكلوديوس بطليموس. لكن انفردت هيباتيا بالتركيز وحدها على مؤلفات أبوللونيوس البرجي حول الأشكال المخروطية، ومكَّنها التعمق في هذا العلم من تقديم تفسيرات جديدة للأهاليج (جمع إهليج؛ وهو الشكل الهندسي شبه البيضاوي المسمى أيضًا بالقطع الناقص)، وهذه التفسيرات كانت ذات أثر بالغ في تقدم شروحات علم الفلك وحركة الكواكب؛ مما جعل العلماء يذكرون هيباتيا ضمن الرواد في هذا المجال.
ولم تكن الفلسفة بعيدة عن عالمة الرياضيات والفلك؛ فبحلول عام 400م تقريبًا، أصبحت هيباتيا سيدة مدرسة الإسكندرية للأفلاطونية الجديدة، ونُسب إليها أنها كانت أفضل من يشرح ويعلق على أعمال أفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين، وهيراقليطس. ونحسب أنه كان لها أسلوب جاذب ومتميز في التدريس، وكان من بين تلامذتها «أوريستس» الذي صار حاكمًا للإسكندرية فيما بعد.
رغم أنها لم تكن قط من دعاة التحريض ولا من الساعين خلف السلطان. فقد كان علمها يشغلها عن الدنيا وما فيها، حتى إن معظم المؤرخين يؤكدون أنها لم تتزوج، وأنها ترهبنت في محراب العلم، إلا أنها وجدت من يكرهها، ومن يفكر في إزاحتها، بل من يحرض على قتلها. ولم يمنحها من اتهموها وأصدروا حكمًا بإعدامها أدنى فرصة للدفاع عن نفسها؛ فقد تقرر التخلص منها بشكل نهائي وفوري، وتمت مهاجمتها، وتجريدها من ملابسها، وسحلها في شوارع الإسكندرية. ثم تم سلخها باستخدام أصداف البحر لفصل لحمها عن عظامها، وأخيرًا تم حرق ما تبقى من أشلائها، في مشهد دراكولي دموي عنيف ومخيف، كافٍ لأن تصل الرسالة إلى الجميع بأن اعتناق العلم خطر وممنوع، وأن ما يريده أهل التطرف هو ما يجب أن يسود.
رغم كل ذلك، فقد انتصر العلم في النهاية، وعاشت هيباتيا بعلمها وجمالها؛ فإن كنا فقدنا أعمالها المكتوبة، فإننا لم نفقد عبق سيرتها، وأحسب أننا لن نفقدها أبدًا. صدق الإمام علي بن أبي طالب:
ما الفضلُ إِلا لأهلِ العلمِ إنَّهمُ … على الهُدى لمن استهدى أدلاءُ
وقيمةُ المرءِ ما قد كان يحسِنُهُ … والجاهِلونَ لأهل العلمِ أعداءُ
فقمْ بعلمٍ ولا تطلبْ به بدلاً … فالناسُ مَوْتَى وأهلُ العلمِ أحياءُ
*المقال منشور في مجلة كوب العلم، عدد النساء والعلم (ربيع 2016).