نتعرض خلال حياتنا في المناطق الحضرية للعديد من الأشياء: المباني الشاهقة، والضوضاء، والزحام، والأسواق، وغيرها. فيسير نمط حياتنا على أنغام العصرية بكل مغرياتها؛ حيث يكون أسلوب حياتنا نتاجًا للبيئة المحيطة بنا. فإذا تركنا المدينة متجهين إلى الريف، سنصطدم بأسلوب حياة مختلف تمامًا عمَّا اعتدنا عليه. فقبل اختراع الراديو والتليفزيون واعتيادنا عليهما في حياتنا اليومية بشكل كبير؛ بحيث يصعب الاستغناء عنهما، كانت المجتمعات الريفية أكثر انعزالاً وغير مواكبة للعالم الخارجي. إلا أن هذا الوضع قد تغير بظهور الأجهزة التي تبث الأخبار من جميع أنحاء العالم، والتي تصل لأكثر الأماكن النائية في العالم.
فالناس الآن أكثر دراية بالثقافات المختلفة وأكثر إلمامًا بالأحداث والأخبار العالمية من ذي قبل؛ ولكن السؤال هو: هل توجد شعوب لم تتأثر بعد بالتغيرات والتطورات التي حدثت على مر القرون الماضية؟ الإجابة هي "نعم".
لاتزال هناك شعوب تعيش في مناطق نائية تمكنت من عدم التواصل مع العالم المتطور؛ فيستمر أفرداها في الحياة على نفس المنوال الذي عاش عليه آباؤهم وأجدادهم. يطلق على تلك الشعوب اسم "المنعزلون، وتلك الشعوب إما تجنبت التواصل مع الشعوب الأخرى، وإما دفعتها ظروفها للانقطاع عن العالم الخارجي.
وتوجد حوالي مائة قبيلة منعزلة حول العالم تتمركز غالبًا في مناطق الغابات الكثيفة بأمريكا الجنوبية، وغينيا الجديدة، والهند. وقد تعرفنا على وجود تلك القبائل من خلال اللقطات الجوية واللقاءات النادرة مع بعض الأشخاص أو القبائل الأخرى. وينظر الكثير من الأشخاص إلى تلك القبائل المنعزلة بعين الانبهار؛ فيوجد بعض منظمي الرحلات السياحية الذين يقومون بتنظيم جولات للبحث عن تلك القبائل. ويعتبر هذا التصرف غير لائق بالمرة وفقًا لمنظمة البقاء الدولية، وهي منظمة تناضل من أجل بقاء تلك القبائل.
والمشكلة التي تواجهها القبائل المنعزلة هي الأماكن التي تعيش بها تلك القبائل مهددة أيضًا من قبل الدخلاء الذين ينتقلون للعيش في تلك المناطق بطريقة غير مشروعة. فتعتبر غابات الأمازون موطنًا للعديد من القبائل المنعزلة، وعندما تأتي الجرافات لقطع الأشجار تصيب الضوضاء وأصوات الآلات تلك القبائل بالذعر؛ فيهرعون من أجل إنقاذ حياتهم تاركين خلفهم منازلهم ومحاصيلهم التي كَدُّوا في زراعتها.
وتوجد أيضًا قبائل منعزلة في الهند، تعيش إحداها في جزيرة شمال سنتينل وتعرف باسم قبائل السنتينليز. تلك القبيلة مازالت تقاوم أي اتصال بينها وبين العالم الخارجي؛ فإذا رأى أفرادها أي دخيل يدنو منهم، يبدأون بالهجوم. ففي عام 2004، عقب التسونامي، تصدرت تلك القبيلة عناوين الصحف، عندما كانت هناك مروحية تقوم بتمشيط بالمنطقة وقام فرد من أفرادها بتوجيه الأسهم نحوها.
يقوم أفراد السنتينليز بالصيد في الغابات، كما يقومون بصيد الأسماك على الساحل. ويعيش أفراد تلك القبيلة في أكواخ متصلة ببعضها، بها العديد من المداخن، كما تستخدم الزوارق الطويلة للتنقل في البحر حول جزيرتهم. وتلك القبيلة أكثر عزلة من القبائل الأخرى؛ لأنها تعيش على جزيرة وتتجنب التواصل مع العالم الخارجي.
ويعتقد أن تلك القبيلة تنحدر من السلالات البشرية الأولى التي ظهرت في إفريقيا؛ ومن المرجح أن أفرادها كانوا يعيشون بجزر أندامان لحوالي 60.000 عام. إلا أن لغتهم تختلف تمامًا عن لغة قاطني جزر أندامان الآخرين، وهو ما قد يشكل دليلاً على عدم تواصلهم مع العالم الخارجي لآلاف السنين.
لقد تم وصف السنتينليز على أنهم همج ورجعيون؛ ولكن ذلك الوصف غير صحيح بالمرة. فطريقة حياتهم قد تبدو للبعض قديمة وبدائية، ولكنهم قد تأقلموا على التغيرات التي تواجههم. فعلى سبيل المثال، يمكنهم صناعة الأدوات والأسلحة باستخدام المعادن التي تتبقى من حطام السفن وتلقيها الأمواج على شواطئ الجزيرة؛ الأمر الذي يدل على أنهم قادرون على تكييف مهاراتهم عند الحاجة، كما أن سلوكهم العدائي تجاه الدخلاء مفهوم.
لقد أدى الضغط الذي مارسته منظمة البقاء والمنظمات الأخرى إلى تغيير الحكومة الهندية لسياستها تجاه السنتينليز؛ حيث حاولت سابقًا التواصل مع أفرداها، وقامت بعدة محاولات باءت بالفشل. ولكن الآن فقد أدركت الحكومة أن تلك السياسة مدمرة؛ فعندما قاموا بالتواصل مع القبائل المنعزلة الأخرى عانت تلك القبائل من كثير من الآثار السلبية جرَّاء افتقادها المناعة لكثير من الأمراض التي نصاب نحن بها كثيرًا - مثل نزلات البرد - والتي تتسبب في وفاتهم. فأدركت الحكومات الآن أنه من حق السنتينليز الحياة بالشكل الذين يريدونه بدون أية تدخلات.
يقول أحد النشطاء الذين يعملون على حماية تلك القبائل عبارة مثيرة للاهتمام يجب أن نتمعن فيها جميعًا: "هؤلاء القوم هم آخر الشعوب الحرة على وجه الأرض". فعندما يفكر المرء في حالنا كسجناء للمغريات الحديثة التي غزت حياتنا، يجد أن ما قاله هذا الناشط صحيح. ولهذا السبب من المهم حماية تلك القبائل المنعزلة؛ فيمكن أن نعتبر حياتهم بديلة لحياتنا، وهي دليل على أنه لا يوجد سبيل واحد لفعل أي شيء.
المراجع
nzherald.co.nz
news.bbc.co.uk
survivalinternational.org
thewe.cc
*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد شتاء 2014.