في الجزء الأول من هذا الملف كتبت عن الوضع العام للنساء في مجال العمارة؛ فيكفي أن أذكر في هذا الشأن أنه بالبحث في تاريخ العمارة لم تظهر أسماء النساء سوى في نهاية القرن التاسع عشر! بالفعل، فإن العمارة مجال سيطر عليه الرجال تاريخيًّا؛ فاستمر هذا الوضع لمئات ومئات السنين. إلا أن النساء قد اخترقن حواجز هذه الجبهة أيضًا؛ فحلقن عاليًا في غضون قرن واحد من الزمان من طيات النسيان إلى النجومية.
وبالحديث عن النجومية فربما لم يسطع نجم لامرأة في مجال العمارة حتى الآن أكثر من نجم زها حديد، التي للأسف رحلت عن عالمنا عام 2016 عن عمر يناهز السادسة والستين. لطالما أشارت الصحافة إلى زها حديد بوصفها سيدة العمارة الأولى في العالم، وأطلقت عليها لقب «ملكة المنحنيات». فحقًّا، كانت لرؤيتها غير التقليدية والريادية دور كبير في إعادة تشكيل العمارة في القرن الواحد والعشرين؛ فخطفت ألباب العالم أجمع. وقد دمجت مشروعاتها الحالمة بين تفاؤلها منقطع النظير بالمستقبل واقتناعها بقوة في الاختراع باستخدام التصميم المتقدم والمواد والابتكار الإنشائي. فعكست ابتكاراتها غير التقليدية والمدهشة تقدمًا اجتماعيًّا لا يضاهيه أي عمل معماري آخر. لذلك حصدت أعلى أوسمة الشرف من المؤسسات العالمية المدنية والأكاديمية والاحترافية.
وفخري بالكتابة عن زها حديد مزدوج؛ فلم تكن أيقونة نسائية في مجال سيطر عليه الرجال طويلًا فحسب، بل هي أيضًا رمز للمرأة العربية الناجحة. لكن يجب التنويه هنا أن زها لم تكن حريصة على توصيفها امرأة في مجال العمارة أو كونها عربية. فقد رغبت في أن تُعرف فقط بصفتها معمارية. ومع ذلك، فعلى مدار مسيرتها المهنية كانت معلمة دءوبة تدفعها طاقة الشباب. فقد ذكرت في أحد الحوارات المنشورة في مجلة «أيكون»: «إنني لا أتطرق أبدًا إلى كوني امرأة في مجال العمارة، ولكن إذا كان ذلك يساعد الشباب ليعلموا أنهم يستطيعون اختراق السقف الزجاجي، فإنني لا أمانع».
ولكنها قالت في حوار آخر نشر في جريدة «الجارديان»: «لا يزال الأمر صعبًا على النساء للعمل بشكل احترافي لأنه لا تزال هناك عوالم غير متاحة لهن... ولكن الأمر قد تغير كثيرًا؛ فنصف طلبة العمارة الآن من النساء، ونرى كثيرًا من النساء المرموقات في مجال العمارة طوال الوقت. إلا أن هذا لا يعني أن الأمر أصبح سهلًا؛ فكثيرًا ما تكون الصعوبات مبهمة، فالعمارة مجال شاق.
في حالتي، فأنا امرأة عربية. وبالطبع، فإن كوني امرأة عربية لا يتعارض مع كوني معمارية حديثة؛ ففي أثناء نشأتي في العراق كان هناك عديد من المعماريات النساء. ومع ذلك، فلا يمكنك تخيل المقاومة الهائلة التي قابلتني لأني عربية وفوق ذلك امرأة، وهو سلاح ذو حدين؛ فما إن يتم تقبل كوني امرأة، حتى يضحى كوني عربية مشكلة. إلا أنني تخطيت ذلك الحاجز، ولكن الصراع كان طويلًا؛ فجعلني أقوى وأكثر دقة، وهو ما ينعكس في أعمالي المعمارية. ورغم كل ذلك، فما زلت أختبر بعض المقاومة، ولكن أعتقد أن ذلك يستمر في دفعي إلى الأمام».
لمعرفة المزيد عن آراء زها حديد، اقرأ الحوار كاملًا في جريدة «الجارديان» من هذا الرابط.
ولدت زها حديد في بغداد عاصمة العراق عام 1950، وقد درست الرياضيات في الجامعة الأمريكية ببيروت، قبل أن تنتقل إلى لندن لاستكمال دراستها بمدرسة الجمعية المعمارية؛ حيث تخرجت مع مرتبة الشرف عام 1977. وقد قامت بالتدريس في مدرسة الجمعية المعمارية لعشرة أعوام بعد ذلك؛ حيث تقلدت عدة مناصب ودرَّست في عدة جامعات حول العالم. أنشأت زها حديد شركتها المعمارية عام 1979، وذاع صيتها في بداية مسيرتها بمحاضراتها وكذلك تصميماتها ومشروعاتها الراديكالية المفعمة بالألوان، والتي نشرت بشكل موسع في الدوريات المعمارية، ولكن معظمها لم يتم تنفيذه.
إلا أن شهرة زها الدولية برزت بشكل كبير عام 1988 حين تم اختيارها لعرض رسومها ولوحاتها من ضمن سبعة معماريين تم اختيارهم للمشاركة في معرض «الحركة التفكيكية في العمارة» في متحف نيويورك للفن الحديث. وبحلول نهاية تسعينيات القرن الماضي انطلقت مسيرتها المهنية عندما فازت بمهمة تصميم متحفين ومبنى صناعي ضخم. وقد تنافست أمام معماريين معروفين لتصميم مركز الفنون المعاصرة في سينسناتي بولاية أوهايو (1997–2000)؛ حيث فازت لتصبح أول امرأة تقوم بتصميم متحف للفن في الولايات المتحدة الأمريكية.
أبرز ذلك المشروع قدرات زها في استخدام الأشكال المعمارية لصنع دراما داخلية، بما في ذلك العنصر المحوري، وهو درج طويل أسود اللون ارتفاعه 30 مترًا، يمر بين منحنيات ضخمة وجدران خرسانية مزوية. وتصميم المتحف عبارة عن سلسلة رأسية من المكعبات والفراغات؛ حيث تتكون واجهة المتحف المطلة على الشارع من واجهة زجاجية شفافة تدعو المارة إلى النظر إلى الداخل على الأعمال الداخلية، وهو ما يخالف الفكرة التقليدية عن المتحف أنه مكان منعزل وغير جذاب للعامة. فينحني مخطط المبنى رويدًا إلى أعلى ريثما يدلف الزائر إلى المتحف؛ فذكرت زها أنها أَمَلَت أن يصنع ذلك «بساطًا حضريًّا» يرحب بالزائرين داخل المتحف.
في عام 2004، على الرغم من أنها لم تكمل سوى أربعة مبانٍ، فقد أصبحت أول امرأة تحصل على جائزة بريتزكر للعمارة، وهي بمنزلة جائزة نوبل في العمارة. وفي إعلانه عن الجائزة قال توماس بريتزكر – رئيس لجنة التحكيم: «على الرغم من أن مجموع أعمالها المكتملة صغير، فقد حازت استحسانًا كبيرًا؛ فتبشر طاقتها وأفكارها بمستقبل واعد بشكل كبير».
شاهد هذا الفيديو: https://www.pritzkerprize.com/video-full-ceremony-zaha-hadid
وفي عام 2010، كان تصميمها الخيالي الجريء لمتحف ماكسي للفن والعمارة الحديثة في روما سببًا لحصولها على جائزة سترلنج المرموقة من المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين (ريبا)، وذلك عن أفضل مبنى من تصميم معماري بريطاني تم الانتهاء منه في العام المنصرم. وقد حصلت على جائزة سترلنج مرة أخرى في العام التالي عن تصميم أنيق قامت بابتكاره لأكاديمية إيفلين جريس، وهي مدرسة ثانوية بلندن.
كذلك حصل تصميمها الانسيابي المتموج لمركز حيدر أليف – وهو مركز ثقافي افتتح في عام 2012 في باكو بأذربيجان – على جائزة لندن لتصميم المتاحف في عام 2014. كانت زها حديد أول امرأة تحصل على تلك الجائزة التي تحكم التصميمات في العمارة، والأثاث، والموضة، والجرافيك، والمنتجات، والتنقل. وشملت أعمالها البارزة مركز لندن للرياضات المائية، ومتحف الفن بجامعة ولاية ميتشيجان، ودار أوبرا جوانجزو في الصين.
لقد كانت أعمال زها حديد المعمارية مبتكرة وأصلية ومدنية؛ حيث منحت الجمهور مساحات سخية منظمة بشكل واضح تكون الحركة فيها بدهية. لكل من مبانيها مكان مرموق في تاريخ العمارة لبراعة الإنشاء، ولأيديولوجية العمارة، ولوجوده الجذاب المحض. فتصميماتها تجسيد لإطار العمل الفلسفي المستنير والانضباط المبدئي. لقد كانت أعمالها موضوعًا لمعارض حازت الإعجاب والتقدير؛ فبالإضافة إلى ما ذكر من أوسمة شرفية لقبت زها حديد بـ«فنان للسلام» من قبل اليونسكو، كما كرمتها جمهورية فرنسا بوسام القيادة في الفنون والآداب، وكذلك قلدت وسام القيادة بالإمبراطورية البريطانية على يد الملكة إليزابيث الثانية في عام 2010.
في أعقاب وفاتها في مارس 2016، كتب مايكل كيملمان في جريدة «نيويورك تايمز»: «لقد تركت منشآتها المحلقة علامة على الأفق وفي الخيال، وفي أثناء ذلك قامت بإعادة صياغة العمارة للعصر الحديث... فقد جسدت زها حديد ما يطلق عليه عصر النجومية المعمارية بكل ما فيه من إسراف ووعد؛ حيث يحلق نجوم العمارة حول الكوكب سعيًا وراء العبقرية الإبداعية الخاصة بهم، ومقدمين أثناء ذلك المعجزات». كذلك وصفها ديان سودجيك في جريدة «الجارديان» بأنها: «معمارية تخيلت أولًا، ثم أثبتت أن الفضاء يمكنه أن يعمل بطرق راديكالية جديدة».
لمعرفة المزيد عن إرث زها حديد الرائع، شاهد هذا الفيلم القصير:
المراجع
arch2o.com
britannica.com
weetas.com
zaha-hadid.com
Cover photo Source*