كم مرة تأملت السماء وشاهدت جسمًا غريبًا أثار فضولك أو شاهدت في حديقة منزلك نبات أو حشرة لم تقرأ عنها من قبل ثم تجاهلت الأمر؟ قد تبدو هذه الأحداث طبيعية ومتكررة إلى حد ما في حياتنا اليومية ولكن لا نعطيها الاهتمام الكافي، ولكن العلماء قد يختلفون معك في الرأي؛ إذ يعدونها أحداث نادرة ومهمة وخطوات أولى نحو اكتشافات علمية جديدة. ولذلك أطل علينا العلم بمفهوم «علم المواطِن Citizen Science» لسد الفجوة بين المواطنين هواة العلوم من ناحية والعلماء المتخصصين من ناحية أخرى؛ ليقدموا معًا اكتشافات وأبحاث في مجالات مختلفة.
كيف أصبح المواطن عالِمًا؟
«كانت كبرى صدماته يوم إعلان نتيجة تنسيق الثانوية العامة ليعلم أن مجموعه العالي لم يؤهله للالتحاق بالكلية العلمية التي لطالما كان يحلم بها» قصة قصيرة حزينة ومكررة في كل بيت مصري تقريبًا – وإن اختلف مسمى المادة الدراسية أو الكلية – لنعتقد خطأ أنها مشكلة محلية تتحطم أمامها أحلام بُنيت لسنوات وينقطع معها هذا الشغف. ورغم ذلك، أثبت لنا العلم مرارًا وتكرارًا أن هذه المرحلة لم تكن أبدًا نهاية رحلتنا الاستكشافية في الحياة. فالتعلم عملية طويلة المدى والشغف بالعلوم يلازم الإنسان بصورة أو بأخرى ليواجه به تحديات هذا الكون الواسع ويحل مشكلاته.
والاكتشاف ليس مفهومًا حديثًا أو يقتصر على شخص ذي سمات محددة، بل هو قديم قدم الإنسانية نفسها. فالفضول شغف فطري عند الإنسان، ولكن الاختلاف يكمن في ملاحظاته وتأملاته في الكون وتفكيره النقدي لهذه الظواهر. وهكذا ظهر مفهوم «علم المواطِن» الذي يرجع تاريخ ممارسته الرسمية، إلى نهاية القرن التاسع عشر، عندما حمل عدد من المتطوعين غير المتخصصين المهتمين بالعلوم تساؤلات مشتركة مع العلماء عن الطيور المهاجرة. فشاركوهم في تسجيل ملاحظاتهم بجمع بيانات عنها وتحليلها وكتابة تقارير عنها. وفي يومنا هذا، صارت المجالات العلمية التي ينشغل بها المتطوعين متنوعة، تشمل علوم الفلك والبيئة والطب وغيرها، كما تنوعت أدوات جمع البيانات ومشاركتها على مستويات عالمية.
«العلم يحتاج عيون وآذان ورؤى أكثر مما يمتلكها العالِم» هكذا دعت قاعدة بيانات مشروعات «علم المواطن» SciStarter، هواة العلوم للانضمام إلى هذه الممارسة التي تستند إلى مشاركة جميع الأطراف في البحث العلمي، ولكن باتباع قواعد محددة وبإشراف العلماء؛ ليقدموا بيانات عالية الجودة تساعدهم على الوصول إلى استنتاجات حقيقية. وتختلف درجات خبرات المتطوعين وفئاتهم العمرية؛ فتتراوح ما بين أطفال يلعبون في فناء المنزل إلى هواة يمتلكون أجهزة فلكية متخصصة سهلت التطورات العلمية استخدامها، بل وأسهمت في عمليتي جمع البيانات ومشاركتها مع الآخرين، في حين كان يصعب على الباحث المتخصص تحقيق هذا بمفرده.
كيف قاد الهواة البحث من منزلهم؟
كانت أفضل طريقة لمحاربة كوفيد-19 البقاء في المنزل، وفي حين كان الحجر المنزلي معوقًا لعلماء كثيرين لإتمام أبحاثهم العلمية سواء بمنع رحلات السفر أو بتوجيه التمويل نحو القطاعات الطبية أو غيرها من الأسباب، كان فرصة آخرين لإشباع شغفهم بالعلوم واكتشاف عوالم أخرى من منازلهم. ولعل أبرزهم المتطوعين المشاركين في مشروع «صائدو الكواكب Planet Hunters TESS»، أحد مشروعات علم المواطن الممولة من وكالة ناسا والتي بدأت في ديسمبر 2018، وأعلنوا في دراسة نشرتها مجلة «الإشعارات الشهرية للجمعية الفلكية الملكية» عن اكتشاف نظام كوكبي خارج نطاق المجموعة الشمسية exoplanets، يتكون من كوكبين متشابهين في الحجم مع كوكبي نبتون وزحل في نظامنا الشمسي، ويدوران حول نجم لامع يشبه الشمس ولكنه أكبر وأشد سطوعًا قليلاً بنحو 1.5 مرة.
Credits: NASA/Scott Wiessinger
وصرحت نورا إيزنر Nora Eisner، الباحث الرئيسي بالمشروع وطالبة دكتوراه في الفيزياء الفلكية بجامعة أكسفورد، «من المثير دراسة الكوكبين معًا لنعرف كيف تنشأ الكواكب وتتطور عبر الوقت». وأضافت موجهة رسالتها إلى المتطوعين المشاركين «لقد اكتشف هذا النظام المثير للاهتمام بفضلكم، ليتأكد لنا أن الفحص البصري يمكننا من اكتشاف أنظمة الكواكب المثيرة التي كافحت خوارزميات الكمبيوتر الآلية العثور عليها، فشكرًا لكل من اشترك في البحث عن عوالم بعيدة لزيادة فهمنا لمجرتنا»، وظهر على الورقة البحثية المعلنة اسم نورا إيزنر بمشاركة أكثر من 20 شخصًا بينهم متطوعين.
Credits: The arXiv version of the published paper/Nora Eisner
«شاركت في اكتشاف كوكب خارجي جديد» جملة تدعو لزهو قائلها حقًا، ولكن هذا لا ينطبق على شخص واحد أو مائة، فمشروع «صائدو الكواكب TESS» يضم اليوم أكثر من 29 ألف عالِم مواطن من جميع أنحاء العالم؛ يدرسون رسومًا موضحة لسطوع النجوم في مراحل مختلفة، ويلاحظوا أي اختلافات قد تساعدهم في البحث عن كواكب خارجية. ويقول ألكسندر هوبرت، أحد العلماء المواطنين المشاركين، وهو طالب جامعي «أحزن أحيانًا عندما أتذكر أن في عصرنا علينا اختيار موضوعًا أو اثنين لدراستهم، ولذلك أمتن حقًا لهذه الفرصة التي أتاحت لي المشاركة في شيء مختلف».
وفي تصريح خاص لمجلة «كوكب العلم» صرح الدكتور نضال قسوم، أستاذ الفيزياء الفلكية بالجامعة الأمريكية في الشارقة ومؤسس برنامج «تأمّل معي» لتبسيط العلوم، معلقًا «نشاط الهواة في المشروعات العلمية البحثية يجري منذ عقود، وفي علم الفلك خاصة ربما يعود إلى قرون، فكثير من الفلكيين الذين ساهموا باكتشافات كبيرة لم يكونوا جامعيين أو باحثين مهنيين، وإنما كانوا من الشغوفين بالسماء والكون والظواهر الفلكية، وتدريجيًّا تقدموا في علمهم وتزوّدوا بأجهزة معتبرة وصاروا قادرين على القيام بأرصاد تضاهي ما يقوم به المختصون».
وأضاف الدكتور قسوم، يوجد عدد هائل من الاكتشافات التي أُطلق أسماء أصحابها الهواة عليها مستشهدًا على ذلك باكتشاف الكواكب الخارجية «اكتشف الهواة في 2011 كوكبين يدوران حول نجم يبعد عنا نحو 226 سنة ضوئية، وقبل ذلك بقليل اكتشفوا كوكب يدور حول نجمين (ثنائي نجمي) والأمثلة عديدة في هذا المجال». وكذلك أوضح للمجلة الدكتور عمر فكري، رئيس مسرح القبة السماوية بمكتبة الإسكندرية ومؤسس برنامج «تعالوا نتكلم فلك» لتبسيط العلوم قائلًا «كانت سلسلة اكتشاف مذنب Comet Shoemaker-Levy 9 لرجل ألماني وزوجته أحد أشهر إسهامات الهواة، وكان هذا اكتشافهم التاسع الذي أكسبهم شهرة عام 1994؛ إذ حصلا على تقدير من الاتحاد الدولي الفلكي لإسهاماتهم في مجال الأبحاث ليتأكد لنا أهمية دور الهواة في البحث الفلكي الأكاديمي».
وكذلك أشار الدكتور فكري إلى أن المتخصصين يعتمدون على الهواة في دراسة المذنبات والتأكد من حسابات وأرصاد السوبرنوفا؛ فمثلًا يقدم الفلكيون بيانات لنجوم يُعتقد أنها ستكون سوبرنوفا، ويطلبون من المشاركين من هواة علوم الرياضيات والفيزياء والكمبيوتر، تحليلها بعد تدريبهم على ذلك. وهذه المهمة لا تحتاج إلى مهنية عالية، بقدر مهارة استخدام الكمبيوتر، لتعرُّف كيفية الإسهام في البحث وتفسير بعض الظواهر الفلكية. وعلق أن مثل هذه العمليات رغم بساطتها تستهلك مجهود مضني من الباحث الأكاديمي، ولذلك عندما ينتهي الطلاب من هذا العمل تحت إشراف الباحثين، تنتهي مرحلة الهواة ويبدأ الباحث بدوره كتابة تقريره العلمي، بعدما نكون قد أزلنا عن كاهله حمل تمكن أحد الهواة من مساعدته فيه.
وأكد الدكتور فكري على أن هواة علم الفلك اليوم بينهم درجات متفاوتة «منهم من يمتلك تلسكوب بسيط أو متقدم ويتابع الكواكب القريبة والقمر بمراحله، وهواة أكثر تقدمًا يدخلون في مرحلة تقارب المتخصصين؛ فيمتلكون خرائط وقواعد بيانات السماء ويقومون بمسح جزء محدد منها ويكتشفون أجسام جديدة لم يكتشفها متخصصين من قبل». وبالمثل أكد الدكتور نضال قسوم على وجود برامج ومشروعات بحثية فلكية متقدمة اليوم يشارك فيها الهواة في البحث عن انفجارات نجمية (نوفا، وكيلونوفا، وسوبرنوفا، وانفجارات جاما... إلخ، ومنها مشروع Grandma – Kilonova Catcher) «لأن الهواة لديهم أجهزة جيدة الآن، والأهم من ذلك، أن لديهم الوقت والقدرة على سبر ورصد مناطق من السماء لفترات طويلة، ما لا يتوفر للمراصد بسبب كثرة الطلب على الأجهزة الكبيرة والأوقات التي تحجز لهذا البحث أو ذاك».
العلم فضاء، فكن رائده!
ردًا على تساؤل طرحته المجلة على العالمين «هل يجب أن نرحب أم نحذر من هذه المشاركة الهواتية، كونها تتم بغير المختصين؟» لم يرى الدكتور نضال قسوم خطرًا «طالما يُدرب الهواة وتُنظم ورشات لهم ثم يفحص كل رصد ونتيجة يتقدمون بها، ولا ننشر أي كلام يأتي به شخص ما إلا بعد الفحص، تمامًا كما نفحص ونحكِّم أي بحث يتقدم به مختص». وكذلك أكد الدكتور عمر فكري أن لهذه الممارسة «منفعة مزدوجة للباحث الأكاديمي الذي يتوفر أمامه الوقت، وللهواة الذين يتذوقون ويمارسون البحث الأكاديمي بإشراف متخصصين».
وفي الختام، نؤكد على أن عِلم المواطِن ليس معني بعلم الفلك فقط، ولكن كان هذا نموذجًا لإلهامك فقط؛ فهذه الممارسة تُعنى بشتى علوم الحياة، ويوجد لها مشروعات عديدة حول العالم، فأدعوك عزيزي القارئ إلى التجول بينها فقد تجد فيها ما يثير اهتمامك، مثل Citizen Science Central وNational Geographic Community Geography وCitSci وZooniverse. وإن كنت شُغفت بالعلوم في مرحلة ما في حياتك وطويت هذا الحلم لأي سبب، فتذكر أن الفرصة ما زالت أمامك؛ فأزل التراب عن هذا الحلم القديم، وساهم مع العلماء في تقديم إنجاز جديد وقل للعالم «ها أنذا!».
Credits: Citizen Science/Virginia Greene
***************************
مصدر الصورة الرئيسية
«هذا التقریر نشر كجزء من مشاركة الكاتب/ة في ورشة الصحافة العلمیة ومن خلال مشروع «الصحافة والعلوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، وهو أحد مشروعات معهد جوته الممولة من قبل وزارة الخارجیة الألمانیة».