بدأت محاولات الارتقاء بصفات وسمات الكائنات الحية، وخاصة النباتات، منذ آلاف السنين. والأمر لا يقتصر فقط على محاولات البشر لتحسين تلك الصفات، بل يتضمن أيضًا التطور بفعل الطبيعة؛ أي إن خصائص الكائنات الحية تغيرت على مدار العصور، وتكيفت وفقًا لظروف البيئة المحيطة والسمات الانتقائية التي تعمل لصالح الفرد ذي الصفات الأسمى والأقوى والقادرة على مقاومة عوامل البيئة القاسية.
تهدف فكرة التعديل الجيني أو الوراثي للنباتات إلى زيادة القيمة الغذائية، وحجم الثمار، وتعزيز قدرتها على مقاومة الأمراض والآفات، وإطالة مدة صلاحيتها كي لا تفسد بسهولة، ورفع إمكانية التكيف مع عوامل البيئة المحيطة. وقد اتفق علماء التغذية والوراثة على وجوب توافر ثلاث صفات أساسية لكل نبات معدل جينيًّا. وهي: أن يكون مختلفًا جينيًّا عن كل السلالات الأخرى، وأن يتوافق وراثيًّا مع فصيلته، بالإضافة إلى كونه ثابتًا جينيًّا وغير معرض للطفرات.
التقنيات
هناك طرق كثيرة نجح الإنسان من خلالها في تحسين صفات النبات الجينية، سواء بتزويده بصفة جديدة جيدة أو بإزالة صفة ضعيفة ضارة. ومن أحدث وأشهر تلك الطرق «التهجين» Cross breeding، والذي ظهرت أولى محاولاته سنة 1700. وتعتمد فكرته على التلقيح بين فصيلتين من النبات متوافقتين جنسيًّا؛ بهدف إنتاج سلالة هجين، مثل البرقوق والمشمش، والليمون والجريب فروت – وقد أنتج تلقيحها «التانجيلوس» Tangelos – والفجل والملفوف، والليمون والبرتقال.
وكذلك استمد الباحثون تقنية «الطفرات» Mutagenesis من الطبيعة؛ وهو تغيير المعلومات الوراثية للنبات. ومن المعلوم أن الطفرات الجينية قد تحدث بصورة تلقائية عند التعرض للكيمياويات أو الإشعاع، وقد ينتج عنها سلالات تحمل أمراضًا وراثية أو مصابة بالسرطان. ويمكن أيضًا إجراؤها في المعمل عن طريق تقنيات فصل، أو تبديل، أو إضافة الجينات أو النيوكليوتيدات. ويسجل التاريخ أول محاولة لإحداث الطفرات في النصف الأول من القرن العشرين، نتج عنها تغيير لون ثمرة الجريب فروت.
وتعد تقنية «دمج البروتوبلاست» Protoplast fusion، من أهم تقنيات التعديل الوراثي. وهي عملية تشبه التهجين، ولكنها تجرى في المختبر وليس المزرعة؛ إذ يدمج العلماء بالمعمل محتويات خليتين نباتيتين مختلفتين جينيًّا معًا، وذلك بعد إزالة الجدر الخلوية لكلتيهما. ثم تضاف مادة البولي إثيلين لمساعدة الخليتين على الالتصاق. ويستمر العلماء في إضافة المواد المساعدة على الاندماج بعد تمام الالتصاق أيضًا؛ بغرض إتمام عملية الاندماج الكامل وتبادل المعلومات الوراثية؛ مما ينتج عنه فرد جديد هجين. ويستخدم خبراء تهجين النباتات تقنية «تعدد الصيغ الصبغية» Polyploidy للتحكم في صفات المحصول، مثل استزراع ثمار البطيخ الخالية من البذور؛ إذ تمتلك الكائنات حقيقية النواة مجموعتين متماثلتين من الصبغيات مثل البشر، في حين تمتلك بعض النباتات أكثر من مجموعتين صبغيتين، وتسمى بعديد الصيغ الصبغية.
كذلك نجد أسلوب «تحرير الجينوم» editingGenome، والذي يُعرف أيضًا بالهندسة الوراثية؛ إذ يمكن للعلماء إضافة، أو قص، أو استبدال الجينات داخل خلايا البذور عن طريق أنزيم نوكلياز، الذي يعمل عمل المقص للجزيئات؛ لامتلاكه القدرة على تحرير، وإزالة، وإضافة النيوكليوتيدات. وهو مخلق بالمعمل بالكلية ليتموضع بالضبط على موقع الجينات أو الصفات المستهدفة. ومن أبرز تطبيقات تلك التقنية إنتاج محاصيل قادرة على مقاومة مبيدات الحشائش الضارة.
بالإضافة إلى ما سبق، يوجد «الحقن المكروي» Microinjection؛ إذ يحقن الباحثون الحمض النووي مباشرة داخل الخلايا النباتية. ولا تنجو خلايا كثيرة من التي تعرضت للحقن، ولكن بعضها ينجح في الاستمرار، وينمو كنبات معدل وراثيًّا محتضنًا الحمض النووي الجديد. وكذلك طريقة «النفاذية الكهربائية» Electroporation؛ إذ يعمل العلماء على تغذية الغشاء البلازمي للخلية بطاقة كهربية عالية، تجعل من السهل إدخال جزيء الحمض النووي DNA الذي يحمل الصفة المراد دمجها إلى الخلية بسهولة. تتعافى تلك الخلايا لاحقًا، وتُعيد بناء جُدرها الخلوية التي أتلفها التيار الكهربي، لتنمو وتتكاثر كنبات معدل وراثيًّا. وهناك كثير من الطرق والتقنيات التي لا ينفك الباحثون في استنباطها مثل «نقل الجينات» Transgenesis، و«الناقل الميكروبي للأجزاء» Microbial vectors، و«الانتقاء الخلوي» Cell selection.
وتشترك هذه التقنيات السابقة وتتقاطع في أحايين كثيرة، وقد تناسب إحداها صفة معينة دون غيرها؛ ولكن بالتأكيد يعمل جميعها على تطوير العملية الزراعية، وإنتاج محصول يتميز بصفات أفضل. فقد أثبت العلماء أن التعديل الوراثي ليس خيالًا علميًّا، وأن فكرة الأطعمة والمحاصيل المعدلة وراثيًّا هدفها خدمة البشرية والقضاء على مشكلات التغذية حول العالم.
الخلاف
يزداد الخلاف ويتعمق بين مؤيدي تعميم تكنولوجيا الطعام المعدل جينيًّا ومعارضيه. ولكلٍّ وجهة نظر مقنعة تدعمها فوائد الفكرة ونقاط القوة فيها. فيذكر العلماء الداعمون لنظرية التعديل الوراثي مزايا التقنية الكثيرة؛ ومنها أن تكنولوجيا زراعة المحاصيل المعدلة جينيًّا تُوفر طعامًا غنيًّا بالقيمة الغذائية، مثل الأرز الذهبي الذي يعد من أوائل المحاصيل التي عدلت جينيًّا، وقُوِّي لعلاج نقص فيتامين (أ)؛ وهو أمر شائع بين بلدان الدول النامية، ويسبب نوعًا من أنواع العمى، وبعض الأمراض المعدية، ويمكن أن يسبب الوفاة عند الأطفال. ويوجد أيضًا محاصيل أخرى كالذرة، والذرة الرفيعة، والموز خضعت كلها للتقوية الحيوية بالفيتامينات والمعادن، لتعلو قيمتها الغذائية، كل ذلك بالإضافة إلى التمتع بنكهة أفضل.
ويعد إنتاج سلالات مقاومة للأمراض وأقل تطلبًا للمبيدات الحشرية، أو بإمكانها أن تكتفي بأنواع أقل سمية وتكلفة، من أهم مزايا التعديل الوراثي للنباتات. فالمبيدات الحشرية تعد من أخطر العوامل الضارة بالبيئة، وبصحة المزارعين والمستهلكين على حدٍّ سواء. ونجد أن النباتات التي خضعت للتعديل الوراثي أصبحت تنتج بروتينات سامة تقاوم الآفات اليرقية، وتدرأ الفيروسات والفطريات النباتية. وعلى الرغم من أن تلك البذور المعدلة وراثيًّا أغلى من العادية، فإن التكلفة الكلية للزراعة تقل إجمالًا؛ إذ تنخفض تكاليف الآلات الزراعية، والوقود، والمبيدات الكيميائية، بالإضافة إلى الوفرة الناتجة في غلة المحاصيل. ويقل معدل تلوث شبكات المياه والمصارف الموجودة بالأراضي الزراعية بشكل كبير؛ بسبب قلة المبيدات الحشرية التي كانت فيما مضى تنتشر على نطاق واسع بين الأراضي وتختلط بماء الري والصرف.
تتميز تلك المحاصيل أيضًا بكونها مقاومة للجفاف ونقص المياه؛ مما يجعلها صالحة للزراعة في عديد من الأماكن قاسية التربة، أو تعاني مواسم تقل بها الموارد المائية؛ بالإضافة إلى عدم احتياجها إلى كثير من الأسمدة الزراعية؛ مما يقلل أيضًا النفقات الكلية لعملية الزراعة. هذا إلى جانب نموها ونضجها في وقت قصير، وتمتعها بفترة صلاحية طويلة، مقارنة بالمحاصيل العادية سريعة العطب. وتتألق الأطعمة المعدلة وراثيًّا في المجال الطبي؛ فيمكن استخدامها في مجال صناعة التطعيمات واللقاحات، وكثير من الأدوية؛ كما تحسنت صفات بعض تلك المحاصيل، والتي كان من الممكن أن تسبب أمراضًا خطيرة مثل السرطان؛ وذلك في حالة نبات البطاطس، الذي أصبح أقل تسببًا في السرطان عند تعرضه للقلي أو الحرارة الشديدة كما كان في السابق.
بالطبع تتعرض تقنيات الأطعمة المعدلة وراثيًّا إلى كثير من الهجوم والاتهامات. فالبعض لديه مخاوف عدة، وقد أعزى كثير من العلماء ظهور بعض الأمراض والحالات المستحدثة إلى الأطعمة المعدلة وراثيًّا. وتتمثل مخاوف هؤلاء في عدد من النقاط، مثل انتشار الحساسية بشكل مبالغ فيه عن السابق. ويفسر العلماء ذلك بأن الجين المزروع بالمحاصيل المعدلة قد يكون قادمًا من نبات أو مكون مسبب للحساسية، وقد أدى إقحامه في كثير من المحاصيل الأخرى إلى انتشار رد الفعل التحسسي بكل هذا القدر، حتى إن منظمة الصحة العالمية WHO طالبت المهندسين الوراثيين بعدم استخدام الجينات في حالة عدم تمكنهم من إثبات أنها غير مسببة للحساسية.
كذلك تُتهم المحاصيل المعدلة بأنها أحد أسباب انتشار السرطان بنسب عالية؛ وذلك بسبب حدوث طفرات في الحمض النووي في النبات الخاضع للتعديل؛ مما يؤدي إلى ارتفاع فرص إصابة المستهلك بالسرطان. ونفت جمعية السرطان الأمريكية تلك الادعاءات قائلة إن الأمر غير حاسم، ويحتاج إلى مزيد من الدراسة. ويعزو الأطباء سبب مقاومة البكتيريا التي تصيب البشر للمضادات الحيوية إلى تناول الأطعمة المعدلة. وتدور نظريتهم حول انتقال الجين المسئول عن مقاومة الأمراض إلى خلايا البشر ومنها إلى خلايا البكتيريا في الأمعاء؛ مما يؤدي إلى إنشاء سلالات جديدة من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. وتفيد منظمة الصحة العالمية بضعف فرص انتقال الجين من الطعام إلى الخلايا البشرية أو إلى البكتيريا.
تخشى فئات كثيرة في المجتمع الأطعمة المعدلة وراثيًّا، كما أن لديها مخاوف عديدة يدور معظمها حول القلق من تخليق طفرات، أو أمراض مستحدثة غير قابلة للعلاج ولا يمكن السيطرة عليها؛ في حين يتقبل المجتمع الطفرات التي تحدث في الطبيعة، والتي قد يكون سببها تعرض الكائنات الحية للمواد الكيميائية أو الإشعاع. فلا شك أن الأمر يحمل بين طياته عيوبًا عديدة كما يجلب كثيرًا من المزايا؛ لذا يجب المقارنة بين الفوائد العظيمة، والمشكلات التي يمكن القضاء عليها، والمخاطر المحتملة، وإخضاع الأمر لتجارب مختلفة؛ من أجل تعميم أو حظر فكرة النباتات المعدلة جينيًّا.
المراجع
biotech-now.org
frontiersin.org
ippc.int
medicalnewstoday.com
medlineplus.gov
ncbi.nlm.nih.gov
resourcesmag.org