لا تقتصر الإسهامات العلمية المهمة أبدًا على هؤلاء الذين يبدأون مسيراتهم العلمية وهم بالغون؛ فيعج التاريخ بالعلماء الذين شكلوا العالم بفضل أعمالهم التي قاموا بها، أو على الأقل شرعوا فيها، وهم في سن المراهقة. فلو كانوا تجوهلوا لمجرد صغر سنهم، لما حصلنا على كثير من الأشياء التي نعتادها اليوم ونعتبرها من المسلمات.
في القرن الثالث قبل الميلاد، بدأ أرسطو مسيرته الحياتية الطويلة ذات الأثر بعيد المدى في أواخر سنين مراهقته عندما التحق بأكاديمية أفلاطون، التي كانت المؤسسة التعليمية الرائدة في اليونان في ذلك الحين؛ حيث درس أرسطو كافة المواد المتاحة في ذلك الزمن. وقد أثبت أرسطو مثاليته كدارس وباحث؛ فامتدت علاقته بأفلاطون الذي كان بدوره تلميذًا لسقراط، واستمرت علاقة أرسطو بأكاديمية أفلاطون لعقدين من الزمان. إلا أن أرسطو قد عارض بعض أطروحات أفلاطون الفلسفية؛ فلم يرث وظيفته كرئيس للأكاديمية بعد وفاته في عام 347 قبل الميلاد، وهو الأمر الذي كان يتوقعه الكثيرون.
كان أرسطو غزير الكتابة ومتعدد الدراسات، وقد غَيَّر تقريبًا جميع المناطق الدراسية التي تطرق إليها؛ فقد كتب قرابة مائتي أطروحة، لم يبقَ منها حتى الآن سوى 31 عملاً. ولكن، مع الأسف، تأخذ تلك الأعمال شكل ملاحظات للمحاضرة ومسودات لمخطوطات غير موجهة للقراء؛ فلا تُظهر ما اشتهر به أرسطو من أسلوب نثري منقح، جذب إليه عديدًا من المتابعين العظماء، بما في ذلك الروماني شيشرون. وقد كان أرسطو أول من صنف مناطق المعرفة الإنسانية إلى أفرع محددة، مثل: الرياضيات، والأحياء، والأخلاق. ولا تزال بعض تلك التصنيفات تستخدم حتى يومنا هذا.
بصفته «أبا المنطق» كان أرسطو أول من طور نظامًا رسميًّا للاستنتاج؛ فلاحظ أنه يمكن التحقق من صلاحية أية حجة يكمن في هيكلها وليس محتواها. وقد سيطرت بصمة أرسطو على هذه المنطقة من الفكر حتى ظهور المنطق الاقتراحي الحديث والمنطق الإسنادي بعد ألفي عام.
ويعد تأكيد أرسطو على الاستنتاج الجيد الممتزج باعتقاده في المنهج العلمي الخلفية التي استند إليها في معظم أعماله. على سبيل المثال، في بحثه في علم النفس والجوهر، يميز أرسطو بين الإدراك الحسي والمنطق، وهو ما يوحد المدارك الحسية ويفسرها، وهو كذلك مصدر كلِّ المعرفة.
أحد اهتمامات أرسطو الأساسية في فلسفته كان مفهومه المنهجي للمنطق؛ حيث كان هدفه التوصل إلى عملية شمولية للاستنتاج من شأنها السماح للإنسان بتعلم كلِّ شيء ممكن عن الواقع. فشملت العملية المبدئية وصف الأجسام بناءً على صفاتها، وحالاتها، وأنشطتها؛ فيناقش في أطروحاته الفلسفية كيف يمكن للإنسان من ثَمَّ أن يحصل على معلومات عن تلك الأجسام من خلال الاستدلال والاستنتاج.
على الرغم من أن أرسطو لم يكن عالمـًا بالمعنى المتعارف عليه من خلال تعريفاتنا اليوم، فإن العلم كان إحدى المواد التي بحث فيها أرسطو بإسهاب أثناء الفترة التي قضاها بمدرسة اللسيوم التي أسسها. فقد آمن أرسطو بأنه يمكن الحصول على المعرفة من خلال التفاعل مع الأجسام الفيزيائية؛ حيث استخلص أن الأجسام تصنعها إمكانية، من ثَمَّ تشكلها الظروف، لتحديد ما ينتهي إليه الجسم؛ كما أدرك أرسطو أن التفسير الإنساني والترابطات الشخصية تؤدي دورًا في فهمنا لتلك الأجسام.
وقد شملت أبحاث أرسطو العلمية دراسة الأحياء؛ فقد حاول – ببعض من الخطأ – تصنيف الحيوانات إلى أجناس استنادًا إلى صفاتها المتشابهة. ومن ثَمَّ صنف الحيوانات إلى أنواع بناءً على ما إذا كانت ذات دم أحمر أم لا؛ فكانت الحيوانات ذات الدم الأحمر غالبًا من الفقاريات، في حين صنفت الحيوانات «منعدمة الدم» برأسيات الأرجل. وعلى الرغم من عدم دقة فرضيات أرسطو نسبيًّا، فإن تصنيفه قد اعتبر النظام المقياسي لمئات السنين.
في عام 322 قبل الميلاد، أصيب أرسطو بمرض في أعضائه الهضمية؛ فمات. وقد قل استخدام أعماله في القرن اللاحق لوفاته؛ إلا أنها قد أُحييت في القرن الأول الميلادي، ومع الوقت أصبحت أساسًا لأكثر من سبعة قرون من الفلسفة. ويعتبر تأثير أرسطو في الفكر الغربي في الأدبيات والعلوم الاجتماعية منقطع النظير، باستثناء إسهامات معلمه أفلاطون وأستاذه سقراط من قبله. فالممارسة الأكاديمية لتفسير أعمال أرسطو الفلسفية ومناقشتها، التي صمدت لألفي عام لا تزال مستمرة.
ومن خلال معرفة أرسطو الشاسعة بالمواد أكمل موسوعات معرفية شملت الأحياء، والأخلاق، والمنطق، والميتافيزيقا، والموسيقى، والشعر، والسياسة، والبلاغة، والمسرح، وعلم الحيوان؛ الأمر الذي مهد الطريق لعديد من العلماء والفلاسفة ليتبعوا خطواته حتى يومنا هذا.
المراجع
blogs.scientificamerican.com
www.biography.com
www.iep.utm.edu
prezi.com
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد صيف 2016.
Cover Image by frimufilms on Freepik