بالرغم من أننا نكبر مؤمنين بأفكار ومفاهيم معينة حول الناس والمجتمع والعلاقات، فإن نتائج تجارب علم النفس الصادمة قد تغير وجهة نظرنا في تلك الأفكار والمفاهيم.
فنحن نعتقد أن الأشخاص الطيبين هم من يتعاملون مع الآخرين بإحسان، والسيئين هم من يسيئون إليهم؛ ولكن في بعض الحالات لا يسهل التفريق بين الخير والشر. ويكون الأمر كذلك خاصة إذا تعلق الموضوع بمكنونات النفس التي لا يراها الناس، ولكنها تتطلب محفزات لتظهر. هنا يطرأ سؤال محيِّر: هل يمكن أن يتحول الطيبون إلى أشرار عند مرورهم بمواقف معينة؟
كانت إجابة هذا السؤال محط اهتمام تجربتين من أشهر تجارب علم النفس الاجتماعي. الأولى تجربة صدمة ملجرام (1961) لصاحبها ستانلي ملجرام، الذي ركز في الصراع بين الانصياع للسلطة والضمير الشخصي، وكيف يمكن للناس أن يؤذوا آخرين استجابة للأوامر التي يتلقونها.
وأما الثانية، فهي تجربة سجن ستانفورد (1971) لصاحبها فيليب زيمباردو، والتي أجريت بهدف العثور على إجابات لأسئلة، مثل: ما الذي يجعل بعضنا يحيا حياةً أخلاقية، وبعضًا آخر ينزلق بسهولة نحو اللاأخلاقية؟ كيف يقوم الطيبون بأفعال شريرة، بل شيطانية أيضًا؟
هل تستطيع الطاعة إسكات الضمير؟
كان بيان الدفاع الذي ألقاه أدولف أيخمان –أحد المنظمين الأساسيين للهولوكوست– تبريرًا لما فعله بأنه كان ينفِّذ الأوامر، هو ما أثار اهتمام ملجرام لإجراء دراسته.
هذا، وقد اقترع المشاركون على تقسيمهم «متعلمين» و«معلمين»؛ فانفصل المشاركون إلى غرفتين. وُصلت أقطاب كهربائية بأذرع المتعلمين في غرفتهم، في حين زُوِّد المعلمين والباحثين بمولدات صدمات كهربائية ذات مفاتيح تتحكم في شدتها من الخفيفة إلى الشديدة.
عندما يبدأ الاختبار، يتلقى المتعلمون صدمة كهربائية تزداد شدتها مع كل خطأ يقترفونه. وعمدًا، يقدِّم المتعلمون إجابات خاطئة، فيتلقون صدمات كهربائية من المعلمين. ومع تزايد شدة الصدمات يلتمس المتعلمون العفو تحت أي عذر؛ وعندما يرفض المعلمون إصدار الصدمة الكهربائية استجابة لرجائهم، يأمرهم القائم على التجربة بإحدى تلك الصيغ الأربع:
1– استمر من فضلك.
2– تتطلب التجربة أن تستمر.
3– من الضروري جدًّا أن تستمر.
4– ليس لديك أي خيار سوى الاستمرار.
وعلى الرغم من أن باحثين آخرين توقعوا أن عددًا قليلًا فقط من المعلمين سيستمرون إلى مستوى الصدمات الشديدة، فإن النتائج جاءت صادمة؛ فقد استمر 65⁒ منهم إلى مستوًى بلغت فيه شدة الصدمات 450 فولتًا، وتخطوا جميعًا شدة 300 فولت.
هل يُمكن أن تتحول الملائكة إلى شياطين؟
أجريت تجربة سجن ستانفورد لدراسة تغيُّر شخصية الإنسان، ودرجة الثقة في توقعاتنا حول ما يمكن أن نفعله أو لا نفعله في مواقف لم نواجهها قط.
أجريت التجربة في سجن زائف في قبو جامعة ستانفورد، جُهِّز لتكون أبوابه ونوافذه ذات قضبان، وتكون جدرانه فارغة، وزنزاناته صغيرة. ضمت التجربة واحدًا وعشرين مشاركًا لا يعرف بعضهم بعضًا مسبقًا. أجريت مقابلات لإقصاء المتقدمين ذوي المشكلات النفسية، والإعاقات المرضية، أو من لهم تاريخ إجرامي أو في تعاطي المخدرات.
بعد ذلك، قسِّموا سجناء وحراسًا بشكل عشوائي. أما السجناء، فكانوا يعاملون كمجرمين حقيقيين، وكان يُشار إليهم بالأرقام لجعلهم يشعرون كأنهم مجهولون. وأما الحراس، فكانوا يرتدون أزياء موحدة، ويحملون صفارات حول رقابهم، وعصيًّا في أيديهم، ويرتدون نظارات شمسية لحجب التواصل بالأعين مع السجناء.
في البداية، كان الحراس والسجناء يؤدون أدوارهم بسهولة. ولكن بعد مدة قصيرة، بدأ بعض الحراس ممارسة السلطة على السجناء والتحرش بهم، في حين اكتسب السجناء سلوكًا مثل سلوك السجناء الحقيقيين، ووشى بعضهم ببعض لكسب ولاء الحراس. بعد ذلك، أضحى السجناء أكثر خضوعًا في حين أمسى الحراس أكثر عدوانية. وقد أنهيت التجربة قبل موعدها؛ نتيجة لانهيار السجناء العاطفي والعدائية الشديدة للحراس.
يقترح زيمباردو أن الحراس تصرفوا بتلك الطريقة؛ لأنهم وُضعوا في محل سلطة، وبدأوا يتصرفون بطرق لا تعبر عن سلوكهم العادي في حياتهم العادية. ووفقًا لزيمباردو، فإن التجربة أظهرت كيف كانت بيئة «السجن» عاملًا مهمًّا في تشكيل سلوك الحراس الوحشي على الرغم من أن أحدًا منهم لم يُظهر أي نزعات سادية قبل الدراسة. وبالنسبة إلى السجناء، فقد اكتسبوا صفتي الضعف والعجز، ما يشرح خضوعهم للحراس؛ فقد تعلموا أن أي شيء يفعلونه يؤثر فيما يحدث لهم.
«عقل لا يغير منه زمان أو مكان. فالعقل راسخ في مكانه، يستطيع في نفسه أن يجعل من الجنة جحيمًا، ومن الجحيم جنة» – جون ميلتون، الفردوس المفقود.
في مقال لملجرام نشر عام 1974، لخص نظريته قائلًا «من المرجح أن ينصاع الأشخاص العاديون للأوامر التي يتلقونها ممن هم في محل سلطة، وإن وصل الأمر إلى حدِّ قتل إنسان بريء». وأضاف أن تلك الاستجابة للسلطة الشرعية تكتسب في مواقف مختلفة بين أفراد العائلة، وفي المدرسة، ومكان العمل.
إذًا، إن كان الانصياع للسلطة متأصلًا فينا جميعًا كما أشار ملجرام، وأنه من شأن المواقف التي نواجهها أن تأتي بما لم نكن نتوقعه كما أشار زيمباردو، فهل سيكون من السهل التمييز بين الخير والشر في مثل تلك السياقات؟
المراجع
simplypsychology.org/milgram
simplypsychology.org
verywellmind.com
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد صيف 2020.
Cover image by Freepik