من خلال ملايين الخلايا العصبية والتواصل الكيميائي الدقيق، يتحكم الدماغ في جميع أعضاء أجسامنا، وفي سريان جميع العمليات الحيوية مثل التنفس والحركة والتفكير والذاكرة. لذا، فإن استثمار الوقت والجهد في العناية بصحة دماغنا أمر ضروري لتعزيز وظائفه وقدراته. ويأتي الصيام ليكون من أعظم المغذيات والمنشطات ليس لأرواحنا فحسب، بل ولأدمغتنا أيضًا. فهل فكرت يومًا كيف يُمكن أن يؤثر الصيام في تطوُّر دماغنا؟ في واقع الأمر، إنها ليست مجرد فكرة بل حقيقة علمية مدهشة.
يمتنع الصائم عن الطعام والشراب في شهر رمضان المبارك لنحو أربعة عشر ساعة يوميًّا في المتوسط. وبينما نعتبر تناول الطعام للحصول على الطاقة أمرًا ضروريًّا لضمان أداء ذهني وبدني سليم، يأتي الصيام ليعكس نظرة مختلفة تمامًا. ففي أثناء الصيام، يتحول الجسم إلى وضع استثنائي يؤدي إلى تجارب ونتائج مدهشة في علم الدماغ. فماذا يفعل الدماغ في هذه الحالة؟ وكيف يمكن لهذه الظروف أن تعزز من تطوُّر الدماغ بشكل مدهش؟
يستهلك الدماغ البشري قرابة ٢٠٪ من مجموع الطاقة التي يستهلكها الجسم يوميًّا، ويحصل على هذه الطاقة وفقا لهذه الآلية المدهشة:
- تناول الغذاء بما فيه من نشويات وسكريات.
- تتحول النشويات إلى صورة أبسط لتنتج الجلوكوز، وهو مصدر الطاقة الأول للجسم.
- يتحلل الجلوكوز إلى مركب أدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP)، وهو جزيء يعمل بمثابة بطارية لتخزين الطاقة وإمداد الخلايا بها عند الحاجة.
- يختزن الزائد من الجلوكوز داخل خلايا الكبد والعضلات في صورة مركب بروتيني يُعرف بالجليكوجين.
- بعد تشبع مخازن الجليكوجين، يبدأ الجسم بتخزين الفائض من الجلوكوز في مخازن الدهون بالجسم، وهذا بالمناسبة ما يسبب زيادة الوزن.
إذًا ماذا يحدث في أثناء الصيام؟ وكيف يحصل الدماغ على الطاقة؟
تعتمد هذه العملية على جودة الطعام المستهلك أثناء ساعات الإفطار وكميته. في الحالات المعتدلة، يدخل الجسم في حالة صيام بعد مرور ثلاث إلى أربع ساعات بعد الأكل ولمدة ثمانية عشر ساعة. خلال هذه الفترة، يستنفد الجسم أولًا كل جلوكوز الدم، ثم يتبع التسلسل السابق نفسه، فيبدأ بتحويل الجليكوجين الموجود في الكبد إلى جلوكوز واستخدامه لإنتاج الطاقة. أما العضلات، فتستهلك الجليكوجين المخزن في خلاياها لضمان مرونة حركة الانقباض والانبساط والتنسيق الحركي العضلي بالجسم. وفي نهاية هذه المرحلة وصولًا للساعات الأخيرة في الصيام، يُستنفد مخزون الجليكوجين كاملًا، فينتقل الجسم إلى حرق الدهون في مخازنها واستخدامها للحصول على الطاقة.
وباعتبار الدماغ هو العضو الأول والأهم الذي يستخدم الطاقة المنتجة من العمليات السابق شرحها، فيمكن للصيام أن يضيف له فوائد مذهلة تعزز من قدراته وكفاءته.
فما فوائد الصيام للدماغ؟
- يحفز الصيام «عوامل النمو العصبي» Nerve Growth Factors، وهي مجموعة من البروتينات والمركبات الكيميائية التي تسهم في تطوير الجهاز العصبي وتغذية الخلايا العصبية بالدماغ ودعم اتصالاتها.
- الحدُّ من مخاطر الأمراض العصبية، مثل مرض ألزهايمر.
- زيادة التركيز والانتباه، ونمو الوعي والإدراك، ونشاط الذاكرة؛ حيث تكون أجهزة الجسم في حالة استرخاء وراحة، فتتوفر معظم الطاقة للدماغ.
- يزيد الصيام من إفراز هرمون السيروتونين، مما يعزز الشعور بالسعادة وتحسين المزاج.
- زيادة التحصيل الدراسي وسرعة الاستجابة للعمليات الحسابية بصورة أسرع، وذلك بسبب عدم تشتت وصول الدم للمخ.
بفضل الصيام، يختبر الدماغ تحولات إيجابية تؤثر بشكل ملحوظ في وظائفه العقلية والعاطفية. فتجربة الصيام ليست تمرين بدني فحسب، بل هي رحلة عميقة نحو التقوى والتأمل والاستشفاء. وبينما نغلق أبواب المعدة، فثمة فرصة لفتح أبواب الفكر والإبداع. لذا، دعونا نستمتع بفوائد هذه الرحلة الروحية، ونستمر في تبني نمط حياة صحي يرتقي بصحة أجسادنا وأرواحنا.
المراجع
healthline.com
ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK534877
ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3289210
ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5505095
nutritionistsblend.com
Cover image credits: Tijana - Fotolia.com/flickr.com