انتهيت من الاستحمام ولم يزل شعرك مبللاً، وفي طريقك للخروج أوقفك والدك فجأة قائلاً: الجو بارد في الخارج! ستصاب بنزلة برد إن خرجت وشعرك مبلل. فتسرع إلى الداخل مرة أخرى لتجفف شعرك باستخدام مجفف الشعر وتنطلق في طريقك مبتهجًا، فقد نجوت لتوك من المرض. لقد أعطاك والدك نصيحة تنبع بشكلٍ هائلٍ من الحس الفطري؛ أي أنها من المعلومات الشائعة التي يعدها الجميع مُسَلَّمًا بها. غير أن الشعر المبتل ليس ما يسبب نزلات البرد، وإنما الميكروبات. فلماذا إذًا يعد الناس معلومات معينة حسًّا فطريًّا؟ وما الحس الفطري بالضبط؟ وهل يمكن تحسينه؟
يُعرِّف قاموس «ميريام – ويبستر» Merriam-Webster الحس الفطري بأنه «الأحكام الصحيحة والحكيمة القائمة على الإدراك البسيط للموقف أو الحقائق»، في حين يعرِّفه قاموس «كامبريدج» Cambridge بأنه «المستوى الأساسي للمعارف والأحكام التي نحتاجها لتساعدنا على الحياة بشكل عقلاني وآمن».
وبشكل أساسي، فإن الحس الفطري هو الأحكام القائمة على المعرفة العامة والحقائق الثابتة، وذلك بالنسبة للشخص الذي يصدر الأحكام أو المجتمع بشكل عام. وعلى الرغم من أن العلم لم يتمكن من إثبات وجود الحس الفطري أو شرح تطوره، فقد تم تسجيل بعض الملاحظات.
فلقد تساءل الناس لبعض الوقت إذا ما كان الحس الفطري موجودًا في مكان محدد في المخ. وما لاحظه العلماء هو أن المرضى الذين خضعوا لجراحات في فصوص المخ الجبهية –عمليات جراحية بربرية كانت تُجرى على مخ شخص يعاني من حالات نفسية معينة– كانوا قادرين على متابعة حياتهم بشكل طبيعي بعد عودتهم لمنازلهم، باستثناء أنهم فقدوا قدرتهم على إصدار أحكام جيدة. ومن ثمَّ، استنتج العلماء أن هذا قد يعني أن المنطقة الجبهية في المخ مرتبطة إلى حدٍّ ما بعملية إصدار الأحكام والاستجابات المتعلقة بالحس الفطري.
ويرتكز الحس الفطري على المعرفة والخبرة. فإن رأيت لهبًا لن تحاول أن تلمسه؛ لأنك تعلم أن ذلك سيؤدي حتمًا إلى إصابتك بحروق. ولكن الأطفال الصغار لا يعرفون هذه المعلومة، وبالتالي لا يستطيعون التصرف وفقًا لها. فنحن قادرون على استنتاج الأحكام الصحيحة من معارفنا السابقة، وذلك ما نطلق عليه الحس الفطري. ورغم ذلك، هل يمتلك الجميع حسًّا فطريًّا؟ للأسف، لا؛ فيبدو أن بعض الناس لا يتمتعون بحس فطري. وما قد يفاجئك أن الأشخاص الذين يتمتعون بمعدل ذكاء مرتفع يعوزهم الحس الفطري، وذلك بحسب قول بروس تشارلتون؛ رئيس تحرير المجلة العلمية Medical Hypotheses Journal.
فيعتقد تشارلتون أن كثيرًا من الأشخاص الذين يتمتعون بمعدل ذكاء مرتفع يتجاهلون الحس الفطري لأنهم؛ يفضلون التعقُّل عن إتباع السلوك الثقافي المكتسب. وقد يعتقد البعض أن هذا سلوك ذكي؛ لأنه أحيانًا ما يؤدي اتباع الحس الفطري إلى أفعال خاطئة وعارية تمامًا من الصحة. إلا أن تشارلتون يرى أن هذا كثيرًا ما يؤدي إلى قيام العباقرة بإعطاء إجابات أو القيام بسلوكيات غريبة.
وعادة ما يرتبط الحس الفطري بالحقائق العالمية التي نتعلمها من خلال التفاعل الاجتماعي. وهذا أيضًا من العوامل التي تفسر عوز الأشخاص الأذكياء إلى الحس الفطري؛ وذلك لأنهم عادة ما يفضلون العزلة؛ ومن ثمَّ فإنهم لا ينخرطون في التفاعلات الاجتماعية. وكذلك من الممكن أن يفتقر الأشخاص العاطفيون أكثر من اللازم إلى الحس الفطري؛ وذلك لأن المنطقة التي تتحكم في العواطف في المخ أسرع بضعة مللي-ثوان عن المنطقة التي تتحكم في اتخاذ القرارات. وعلى الرغم من أن هذا الفارق دقيق، فأنه كافٍ لجعل الشخص يتصرف بلا عقلانية استجابة لشيء ما.
ومن ناحية أخرى، عادة ما يتمتع الأشخاص الذين يعانون من متلازمة آسبرجر –اضطراب طيف التوحد– بمستويات أعلى من الذكاء. إلا أنهم قد يواجهون صعوبات في التواصل، ويفشلون في فهم الإيماءات الاجتماعية، مما يجعل الآخرين يعتقدون أنهم يفتقرون إلى الحس الفطري.
والحس الفطري ليس عالميًّا كما تذهب بعض الافتراضات؛ فهو يختلف ويتغير من مكان إلى آخر. فما يعده الناس حسًّا فطريًّا في مكان ما لا يعد بالضرورة كذلك في مكان آخر. فإن كنت تعيش في منطقة حضرية، فأول ما ستفعله عندما تعبر الطريق أن تتحقق من خلو الطريق من السيارات القادمة لتتجنب التعرض لحادث. غير أنك إن كنت تعيش في منطقة ريفية، فلن تتصرف بالطريقة نفسها بالضرورة؛ لأن مرور السيارات بها أمر نادر الحدوث.
ومثلما يتغير الحس الفطري عبر المكان، فإنه يتغير عبر الزمان أيضًا. فما كان يُعد حسًّا فطريًّا في القرن الثالث عشر، ليس كذلك في يومنا هذا. وذلك مثل بعض الاعتقادات التي كانت تعد من الحقائق ثم أُثبت عدم صحتها بعد ذلك، وهكذا لم تَعُد حسًّا فطريًّا. والحس الفطري نتاج التعلُّم؛ فيقوم على المعلومات التي نكتسبها من الناس من حولنا إلى جانب تجاربنا الشخصية، كما يمكن تعليمه للراشدين الذين يفتقرون إليه؛ غير أن ذلك سيتضمن تعريضهم لسيناريوهات «ماذا لو؟» عديدة، ثم شرح الاستجابات الحسية الفطرية لهم.
إنه الحس الفطري ما يساعدنا كل يوم؛ فهو مثلاً ما يخبرنا أن شرب القهوة كثيرًا يحرمنا النوم الجيد، ليس لأنها معلومة توارثناها، ولكن لأننا تعلمنا ذلك من خبراتنا السابقة. وقد لاحظ الكاتب الفرنسي فولتير أن الحس الفطري ليس «فطريًّا» بمعنى الكلمة، وذلك لأن كثيرًا من الناس يفشلون في استخدام هذه الملكة عند اتخاذ القرارات. ومن ثمَّ، فمتى تسمع شيئًا يقال إنه من الحس الفطري، فأعد التفكير فيه، وتحقق من مدى صحته. ومتى كنت على وشك اتخاذ قرار، فلا تنس إعمال ملكة الحس الفطري.
المراجع
www.selfgrowth.com
www.psychologytoday.com
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في نشرة مركز القبة السماوية العلمي، عدد صيف 2013.
Cover image: Man cutting the branch sitting on. Credits: Frits Ahlefeldt/Museum of Psychology