يقضي أغلبنا نحو ثلث يومه في مكان العمل، ونتعرض فيه لمشكلات تتعلق بالسلامة والصحة تختلف باختلاف طبيعة العمل وبيئته. وعلى الرغم من أن دستور منظمة العمل الدولية ينص على حماية العاملين من الأمراض والإصابات المتعلقة بالعمل، فإن واقع الأمر مختلف تمامًا. فيفقد نحو مليوني شخص حياتهم سنويًّا من جرَّاء الحوادث والأمراض المتعلقة بالعمل، كما يعاني حوالي مائة وستين مليون شخص من أمراض تتعلق بأعمالهم. واستجابة لهذا، تبنت منظمة العمل الدولية في العقد الماضي خطة عالمية لتحسين الصحة والسلامة المهنية، واضعةً عشرات المعايير والمعاهدات ومدونات السلوك المتعلقة بها.
مهمات الوقاية الشخصية
تعد مهمات الوقاية الشخصية خط الدفاع الأولي ضد الأخطار التي ينطوي عليها الإنتاج الزراعي؛ إلا أنه لا يجب اعتبارها بديلًا وافيًا للتدابير الوقائية الأخرى. وتتضمن مهمات الوقاية الشخصية الشائعة الخوذات لحماية العاملين المعرضين لمخاطر إصابات الرأس، والدروع الواقية للوجه، والنظارات الواقية، وأقنعة التنفس لحماية العاملين من الجسيمات الطائرة، والأبخرة، والغبار، والأخطار الكيميائية. كذلك تتضمن القفازات، وأحذية السلامة، وواقيات الركبة للأعمال التي تتطلب الركوع؛ كما يتم تصميم واقيات الآذان بحيث تحجب الضوضاء ولا تحجب صوت صافرات الإنذار. وأخيرًا وليس آخرًا، لا بد من إتاحة مرافق للاغتسال والنظافة الشخصية في موقع العمل.
يجب تعريف المزارعين بأهمية استخدام مهمات الوقاية الشخصية، وتدريبهم على كيفية استخدامها وصيانتها بشكلٍ صحيح. ولا بد من تخصيص مجموعة مهمات خاصة لكلِّ عامل على حدة، إلا إذا تم تطهيرها جيدًا بعد كلِّ استخدام. وبشكل عام، يجب معاملة هذه المهمات وفقًا لطبيعة الخطر الذي يتعرض له العامل وللتعليمات المرفقة معها من المصنِّع.
التعرض للغبار والجسيمات الأخرى
تنطوي الأنشطة الزراعية على توليد أنواع متباينة من الغبار وغيره من الجسيمات التي تمثِّل خطرًا محتملًا على صحة المزارعين؛ فتنتج بعض أنواع الغبار أثناء عمليات إنتاج كثير من الحبوب، والبقوليات، وغيرها من المحاصيل الحقلية. وتتضمن تلك العمليات تجهيز البذور للزراعة، والحصاد، والمعالجة الأولية، والتعبئة، ونقل المحاصيل إلى الأسواق؛ هكذا، فإنها قد تحوي جسيمات مثل القش، وتفل قصب السكر، وقشور البذور، وبقايا فطرية وبكتيرية، وبقايا مبيدات آفات زراعية، وجسيمات السليكا.
وترتبط بعض أنواع الغبار الأخرى بالإنتاج الحيواني؛ فقد تحتوي على جسيمات من القش والحبوب، وفضلات الحيوانات، والبكتيريا، والسموم، والفطريات، وشعر الحيوانات، والريش، وحبوب اللقاح. وقد ينجم عن التعرض لمثل هذا الغبار أمراض رئوية عديدة مثل الانسداد الرئوي المزمن، والربو، والمتلازمة السامة للغبار العضوي، وحساسية الأسناخ الرئوية الحادة والمعروفة أيضًا باسم «رئة المزارع».
يُعدُّ منع التعرض لمثل هذا الغبار الضار أمرًا مستحيلًا، وبالأخص في الأماكن المفتوحة؛ ولذلك فاستخدام مهمات الوقاية الشخصية أمر شديد الأهمية في هذه الحالة. وينبغي على أصحاب المزارع استخدام تقنيات الترشيح الحيوي والتهوية في المرافق المغلقة للحدِّ من الأخطار، كما ينبغي مراعاة تخصيص مساحة مناسبة لكلِّ حيوان ومراعاة ارتفاع الأسقف عند بناء مرافق الحيوانات المغلقة؛ وذلك لخفض نسبة تركيز الغبار داخلها. ونهاية، يجب تنظيف المعدات المستخدمة لخفض التعرض للغبار في بيئة العمل جيدًا بشكلٍ دوري.
التعامل مع الحيوانات
تنطوي أعمال الإنتاج الحيواني على أخطار مختلفة، تشمل التعرض لفضلاتها؛ فيواجه المزارعون مخاطر التعرض للأمونيا، والميثان، والبكتيريا، والأمراض حيوانية المصدر—أي مرض أو عدوى يمكن انتقالها طبيعيًّا من الحيوانات الفقارية إلى البشر.
وتنبعث الأمونيا بمعدلات هائلة من فضلات الحيوانات والطيور، ويؤدي التعرض لها في البيئات المغلقة إلى تدميع العينين وتهيج الجهاز التنفسي؛ في حين يُنتج الميثان في حُفَر روث الحيوانات ويؤدي إلى الوفاة بسبب الاختناق. وعلى صعيد آخر، قد تحدث العدوى البكتيرية من جرَّاء التلوث الثانوي للمياه الجوفية ببكتيريا الإشريكية القولونية المعروفة بالإي كولاي والقولونيات الأخرى. وينجم عنها أمراض معوية حادة مثل الإسهال، وأمراض شديدة للكلى، وغيرها.
فيما يتعلق بالأمراض حيوانية المصدر، فمن الممكن أن يظهر على المزارعين أعراضها بعد التعامل مع الحيوانات المصابة أو منتجاتها. ويعد الإنسان العائل الأساسي للأمراض حيوانية المصدر؛ مثل: الجمرة الخبيثة التي تؤذي الجلد، والحمى المتموجة التي تؤدي إلى الإصابة بالحمى، ومرض الببغائية الذي يؤدي إلى الإصابة بالالتهاب الرئوي، وأنفلونزا الطيور.
للحدِّ من الأخطار المتعلقة بالتعامل مع الحيوانات، لا بُدَّ من اتخاذ بعض التدابير الوقائية. فيجب تهوية حظائر الحيوانات المغلقة جيدًا لحماية العاملين من النسب المرتفعة للغازات الضارة. ومن جهة أخرى، على العاملين ألا يدخلوا هذه الأماكن بدون ارتداء مهمات الوقاية الشخصية اللازمة، بما في ذلك القفازات، والأقنعة، والنظارات الواقية، والثياب، والمرايل، والأحذية الطويلة.
وعلى أصحاب المزارع الاهتمام بتوفير التطعيمات الدورية اللازمة للحيوانات والعاملين للحدِّ من مخاطر تفشي الأمراض حيوانية المصدر. كما يجب تدريب العاملين المنخرطين في عمليات تتطلب فتح جلود الحيوانات والتعامل مع السوائل الموجودة بأجسامها؛ فمن شأن مثل تلك التدريبات أن تبقيهم سالمين بمنأى عن التقاط العدوى.
من المهم أيضًا توفير إمدادات مستديمة من المياه الآمنة في المكان، واتباع الممارسات السليمة فيما يتعلق بالتخلص من الفضلات، والتنظيف والتعقيم الدوري للمواقع الملوثة، والعلاج الفوري للحيوانات المصابة أو التخلص منها بطريقة سليمة.
الأخطار الكيميائية
تستخدم مواد كيميائية عديدة في مجال الزراعة حول العالم، ممثلة مخاطر جسيمة على صحة المزارعين والجمهور بشكل عام. وعلى الرغم من أن غالبية الأسمدة غير سامة، فإن بعضها خطير؛ فعلى سبيل المثال، قد تسبب الأمونيا اللا مائية في هيئتها الغازية تهيج البشرة ولها تأثيرات أخرى خطيرة في الجهاز التنفسي.
من مصادر الأخطار الكيميائية الأخرى العوادم الناجمة عن المعدات التي تعمل بالوقود، والغازات السامة التي تُنتج أثناء تخزين المحاصيل. وتُعدُّ مبيدات الآفات الزراعية والمنتجات المماثلة –مثل مبيدات الفطريات، ومبيدات الأعشاب، ومبيدات الحشرات، ومبيدات القوارض– أكثر المواد الكيميائية استخدامًا في الزراعة، وأخطرها على صحة وسلامة العاملين في هذا المجال.
وتجد المواد الكيميائية الخطيرة طريقها إلى داخل جسم الإنسان عبر ما يُعرف بمنافذ التعرض؛ فيُعدُّ الامتصاص عن طريق البشرة منفذ التعرض الأساسي، والذي قد يحدث أثناء رش المادة الكيميائية. وتتوقف شدة التعرض عبر هذا المنفذ على وتيرة النشاط، ودرجة تركيز المادة الكيمائية أو المادة الفعالة في المبيد، وعلى ما إذا كان العامل يستخدم معدات تطبيق المادة الكيميائية ومهمات الوقاية الشخصية بشكلٍ سليم. ولأن السيدات والأطفال فئتان تعملان بكثافة في مجال الزراعة بالدول النامية؛ فإنهما أكثر عرضة للتضرر نتيجة الامتصاص عن طريق الجلد.
كذلك يعد الاستنشاق منفذًا رئيسيًّا ثانيًا للتعرض؛ وذلك حينما تمتص الغازات والأبخرة في الجهاز التنفسي، وهو أمر شائع الحدوث عند التعامل مع المركبات الطيارة أو في البيئات المغلقة مثل الصوبات الزجاجية. وقد يؤدي التعرض إلى بعض المواد الكيميائية الزراعية مثل مبيدات الحشرات الفسفورية العضوية والكارباماتية إلى تأثيرات صحية موضعية أو جهازية حادة؛ بحيث تظهر أعراضها خلال فترة قصيرة جدًّا. وتتباين الأعراض من الصداع، وزيادة إفراز اللعاب، والغثيان إلى ضيق التنفس والوفاة.
من شأن بعض المواد الكيميائية الزراعية الأخرى التسبب في تأثيرات صحية مزمنة؛ فقد ثبتت العلاقة بين الإصابة بسرطان الرئة وسرطان الدم، والتعرض المهني لمبيدات الآفات الزراعية. إلا أنه قد تم تحريم استخدام وتسجيل المواد الكيميائية المسببة للسرطان في أغلب الدول. هذا، وتشمل الأمراض المزمنة الأخرى التسمم العصبي، وأمراض الكبد والغدة، والتهاب الجلد التحسسي.
لحماية المزارعين من مثل تلك الأخطار الكيميائية، لا بد أن تلتزم الحكومات بالمعايير والتشريعات الدولية الخاصة باستخدام المواد الخطرة في الزراعة وفرضها. إن تم تنفيذ ذلك، يمكن تجنب المخاطر الأخرى عن طريق اتباع الممارسات الآمنة للعمل، والرجوع إلى بطاقات المعلومات الخاصة بالمبيدات وقراءة غيرها من المواد المتاحة المتعلقة بالصحة والسلامة. فمثل تلك المواد تمد بمعلومات ونصائح شديدة الأهمية حول التعامل مع المواد الكيميائية، وخلطها، وتطبيقها بشكلٍ سليم. كما أنها تحمل معلومات حول التأثيرات الصحية المحتملة وحول التدابير اللازمة للتخفيف منها.
ومن الممكن لبعض الإجراءات الإدارية أن تسهم في الحدِّ من المخاطر الكيميائية؛ مثل: تقليل فترات تعرض العاملين، والتنظيف المنتظم للمعدات الملوثة، والتنظيف الفوري لأية تسريب أو انسكاب، واتباع الممارسات الآمنة فيما يتعلق بتخزين المواد والتخلص منها، واستخدام مهمات الوقاية الشخصية المناسبة.
استخدام الآلات
تُعدُّ الجرارات من أكثر الآلات الزراعية شيوعًا. والأخطار المتعلقة بها تتضمن الترنح مما يتسبب في انقلابها، والإصابات الساحقة من جراء الترنح غير المقصود، والانزلاق والوقوع أثناء ركوبها أو النزول منها، وإصابات عضوية أخرى جرَّاء الضوضاء والاهتزازات التي تسببها.
للحد من هذه الأخطار، يتعين على مالكي الجرارات ومشغليها اتباع ممارسات العمل الآمنة؛ فيجب أن يكون قائد المركبة لائقًا جسديًّا لقيادتها والسيطرة عليها. كما يجب أن يكون ملمًّا بتعليمات التشغيل والمخاطر المحتملة وكيفية منعها. كذلك، لا بد أن تزود الجرارات بسلالم خشبية أو درجات ودرابزين لتمكين القائد من ركوبها والنزول منها بسلام. علاوة على ذلك، لابد أن يلتزم القائد بربط حزام الأمان والالتزام بقاعدة راكب واحد لكرسي واحد.
وأخيرًا، لا بد من تطبيق نظام صيانة محكم للآلة نفسها. كما يجب أن يتحقق المالك من صيانة المكابح، والأضواء، وغيرها من معدات السلامة وإبقائها في حالة جيدة للحدِّ من المخاطر المحتملة.
توجد أخطار ومخاطر أخرى عديدة تهدد العاملين في قطاع الزراعة؛ مثل: التعرض الحراري، والضوضاء، والاهتزازات، والحرائق المحتملة، وغيرها. قد تبدو لك أغلب التدابير الوقائية التي قرأتها فيما سبق مترفة وغير واقعية، وخاصة في الدول النامية مثل مصر؛ حيث يتم كثير من الأنشطة الزراعية بشكلٍ غير نظامي. لا بُدَّ من مواجهة هذه الأخطار بجدية لحماية نحو مليار عامل حول العالم، وإلا فسيتضرر أكثر من ثلث القوة العاملة في العالم العاملة في الزراعة، وستبقى مؤن العالم الغذائية في خطر.
المراجع
Draft code of practice on safety and health in agriculture. (2010). Geneva: ILO.
http://www.who.int
http://www.ilo.org
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في «كوكب العلم»، عدد خريف 2015.
Cover image: Image by freepik