توصيل العلوم: ما هو؟

شارك

«توصيل العلوم قضية مهمة، لا تقتصر أهميتها على المجتمع العلمي ولا تقل خارجه؛ فهي تمس الوطن برمته وكلَّ فرد فيه. وأكثر من أي وقت مضى، يحتاج البشر إلى فهم العلوم، سواء كانوا من متخذي القرار على المستوى القومي أو المحلي، أو من القائمين على الشركات الصناعية، أو من الموظفين والحرفيين، أو من الناخبين من عامة المواطنين، أو لاتخاذ القرارات على المستوى الشخصي.» هكذا ورد في تقرير «الفهم العام للعلوم» الصادر عن الجمعية الملكية بلندن في عام 1985.

يشير مصطلح «توصيل العلوم» بصفة عامة إلى التوصيل العام للموضوعات المرتبطة بالعلوم إلى غير الخبراء؛ وذلك من خلال إقامة المعارض العلمية، والصحافة العلمية، وإنتاج السياسات والإعلام المرتبط بالعلم، وغيرها. وقد يهدف إلى توفير الدعم المادي للأبحاث والدراسات العلمية، أو توعية متخذي القرار، بما في ذلك الفكر السياسي والأخلاقي. ويوجد تركيز متزايد على مناهج شرح العلوم وليس اكتشافاتها فقط، وتبرز أهمية ذلك عند التعامل مع المعلومات العلمية المغلوطة، والتي تنتشر بسهولة نتيجة عدم تقيدها بالمنهج العلمي.

غيَّر توصيل العلوم الفعَّال العالم بالفعل؛ إذ تشهد ثورة كوبرنيكوس على ذلك؛ فقد نشر كتابًا في عام 1543م عن حركة الأرض حول الشمس، متعارضًا مع الفكر السائد حينها عن حركة الشمس حول الأرض. فكانت تلك ثورة فكرية؛ ومثل تلك الثورات الفكرية يقودها موصلو علوم عظماء.

على سبيل المثال أيضًا، كان داروين مؤلفًا ذائع الصيت تميزت كتاباته بالبلاغة والفصاحة، وكانت كتبه من أكثر الكتب مبيعًا، ومنها كتاب «نظرية الانتقاء الطبيعي»، وهي النظرية التي روج لها داروين وأحدثت تغييرًا جذريًّا في تاريخ الفكر الإنساني. وبالرغم من أن الجميع تقريبًا يعرفون تشارلز داروين، فلم يسمع كثيرون عن ألفريد والاس؛ رغم أن الاثنين نشرا أوراقهما البحثية حول الانتقاء الطبيعي تباعًا في العدد نفسه من مجلة «نيتشر (الطبيعة)» Nature. وقد توصل الاثنان للنظرية نفسها كُلٌّ على حدة في الوقت نفسه؛ إلا أننا على دراية أكبر بداروين، وذلك بفضل براعته في توصيل العلوم.

كذلك أحدث أينشتاين ثورة في الفيزياء والطاقة الذرية، وأحدث واطسون وكريك ثورة في التكنولوجيا الحيوية والعلوم الطبية؛ إذ غيَّر هؤلاء الرواد في توصيل العلوم طريقة تفكيرنا. وقد قاموا بذلك لأن المجتمع كان في حاجة إلى معرفة أمر ما؛ احتاج أن يعرف مكاننا في الكون ومن أين أتينا، وتلك احتياجات معرفية إنسانية أساسية.

وفي ذروة عصر التنوير في القرن التاسع عشر، اتصف العلم بالمشاركة الشعبية المتميزة، وهو ما سُميَ بـ«جمهورية العلم»؛ وإن كانت المشاركة محدودة جرَّاء الفقر التعليمي بين عامة الشعب. إلا أنه مع نهاية القرن التاسع عشر أصبح العلم أكثر احترافية واتساقًا مع اهتمامات الدولة، وهي السمة التي استمرت منذ ذلك الحين. فأصبحت العلاقة بين العلم والجمهور قيام العلماء بتوصيل المعرفة إلى جمهور «أمي علميًّا»، وهو ما يسمى «نموذج العجز».

إلا أن منتقدي هذا النموذج يجزمون أن الجمهور لا يهتم بالمعلومات خارج سياق ما؛ بمعنى آخر، تلك التي لا ترتبط بحياتهم بشكل ما (كاهلور وروزنثال، 2009). وقد كتب كلٌّ من جيفري توماس وجون ديورانت في عام 1987 مؤيدين لأسباب عدة وراء التوجه إلى زيادة فهم الجمهور للعلوم، أو المعرفة العلمية. فزعما أنه إذا زاد استمتاع الجمهور بالعلم، فمن شأن ذلك أن يزيد من الدعم المادي، والتقدم النظامي، والعلماء والمهندسين المتدربين؛ خالقًا دولة أكثر تنافسية اقتصاديًّا. ويمكن للحكومات والمجتمعات أيضًا الاستفادة من زيادة المعرفة العلمية؛ حيث تدعم معرفة الناخبين وفهمهم للعلوم المجتمع الديمقراطي، كما يحث العلم على اتخاذ القرارات بشكل أخلاقي.

في المملكة المتحدة، بدأ الاتجاه الحديث لتوصيل العلوم بنموذج الفهم العام للعلوم، وقد تغير ذلك النموذج بعد عام 2000 وبعد تقرير جنكين لمجلس اللوردات تحت اسم «العلم والمجتمع»؛ فأصبح نموذج التواصل العلمي والتكنولوجي مع الجمهور. ولكن على الرغم من أن الهدف كان تحسين التفاعل بين العلماء والجمهور، فإن التواصل كان لا يزال بشروط العلماء؛ فلم يعكس سوى تغير ضئيل عن نموذج العجز؛ حيث ظلَّ على الجمهور تقبل الرسائل التي يرسلها العلماء دون تواصل أو حوار حقيقيين.

على صعيد آخر، يشير برنارد كوهن إلى المساوئ المحتملة لزيادة المعرفة العلمية؛ فيشرح أولًا أهمية تحاشي «تأليه العلم». بمعنى آخر، على التعليم العلمي السماح للجمهور باحترام العلم دون تأليهه أو توقع خلوه من الخطأ؛ فالعلماء في نهاية المطاف بشر يخطئون. ويجب على موصلي العلوم الانتباه للفارق بين فهم العلوم وامتلاك مهارة نقل التفكير العلمي؛ فحتى العلماء المتدربين لا يستطيعون دائمًا نقل مهاراتهم العلمية لبقية أوجه حياتهم.

والحوار المفتوح بين العلماء والجمهور يغير بشكل أساسي عملية توصيل العلوم؛ حيث تتطور من عملية أحادية الاتجاه إلى عملية ثنائية الاتجاه. فالهدف بدء نقاش مفتوح يشارك فيه جميع المستفيدين، فيتناظرون وينتقدون. ولهذا العهد الحديث في توصيل العلوم إمكانيات هائلة ونيات حسنة كثيرة؛ إلا أن كثيرًا من النقاد يتساءلون ما إذا كان العلماء سيلتزمون بأخذ آراء الجمهور بعين الاعتبار، أم أنها حملة علاقات عامة فقط (دافيس، 2008).

ومن المبكر أن نتبين الآن السمات طويلة المدى التي ستظهر بفعل شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، أو كيف سيكون تأثير ذلك التحرك نحو الإتاحة. فهل سنشهد إعادة إحياء لجمهورية العلم التنويرية، أو ما يطلق عليها في كثير من الأحيان علم المواطن؟ وبعيدًا عن هواة الفلك والطبيعة، هل سيستطيع الجمهور قيادة النقاشات العلمية أو المشاركة فيها؟ ومن الأمثلة القائمة بالفعل للمشاركة الجماهيرية عبر شبكة الإنترنت موقعا جالاكسي زوو (Galaxy Zoo) وفولديت (Foldit)، وإن كان اتجاهها لا يزال من أعلى إلى أسفل.

مؤخرًا، تم عمل أفلام فيديو عن الجدول الدوري ردًّا على تعليقات الجمهور وتساؤلاته؛ حيث كشفت مواقع التواصل الاجتماعي بعض أسرار مهنة الباحثين. توجد مؤشرات إلى تحدي مواقع التواصل الاجتماعي للتسلسل الهرمي الداخلي للعلم؛ حتى وإن كانت تلك النقاشات بين العلماء أنفسهم وليست بين العلماء والجمهور. فمن الواضح أن شبكة الإنترنت لا تسمح للدخلاء بمناقشة المناهج، والدوافع، والاستنتاجات العلمية على الملأ؛ ولكنها تسمح للعلماء بتوسيع شبكاتهم وتغيير المفاهيم المغلوطة عن مجالاتهم. فكيفما تكون النتائج، فحتمًا ستكون شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الثقافي جزءًا لا يتجزأ من تطور العلاقات المستقبلية بين العلماء والجمهور.

المراجع

victoriaellis.scienceblog.com

www.carlsagan.com

blogs.nature.com

ian.umces.edu


هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد خريف 2016.

Cover designed by Freepik

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2025 | مكتبة الإسكندرية