في عام 2010، انتشر فيديو عبر الإنترنت لأنثى أورانجوتان تُدعى تيلدا وتعيش في حديقة حيوانات كولونيا بألمانيا؛ حيث تظهر فيه وهي تُصدر سلسلة من الأصوات العميقة المشوشة التي تشبه حديث البشر. مع ذلك، لا تعد تيلدا أول حيوان يحاكي كلام البشر. فهناك أنواع حية أخرى تُصدر أصواتًا مماثلة لكلام الإنسان مثل الحيتان والأفيال وبالطبع الببغاوات؛ ولكن، كيف تصدر تلك الأصوات؟
تكمن الإجابة بالنسبة للأورانجوتان في العضلات المعقدة لمجراها الصوتي وسماكة لسانها ومرونته التي تمكنها من إصدار تلك الأصوات بسهولة؛ في حين تستخدم الحيوانات الأخرى وسائل مختلفة. فالحيتان – على سبيل المثال – يمكنها أن تحاكي أصوات الإنسان بتضخيم تجاويفها الأنفية، في حين تضع الأفيال حواف خراطيمها في أفواهها لتشكيل مجراها الصوتي.
ومن هنا قد تجد أن الشرط الوحيد كي تتحدث هو أن تمتلك خصائص جسمانية محددة. ولكن، فكر في الآلات الموسيقية؛ فسوف تلاحظ أن هناك بعض الآلات التي لا يمكنها إصدار أصوات كثيرة عندما يكون مجراها الصوتي قصيرًا، وذلك مقارنة بما تفعله آلات أخرى ذات مجرًى صوتي أطول؛ حيث تخرج أصواتًا أكثر تنوعًا. وبالمثل، فحنجرة الإنسان أطول بكثير من حناجر الحيوانات؛ ولكن، لمَ لبعض الحيوانات القدرة على التحدث في حين لا يقدر البعض الآخر؟
العنصر المشترك بين تلك الأنواع المختلفة المقلدة لصوت الإنسان هو أن كلًّا منها «متعلم صوتي»، على عكس الحيوانات الأخرى التي تصدر فقط الصيحات التي وُلدت عليها ولا تقدر على إصدار أصوات جديدة. فمتعلمو الأصوات يسمعونها ويحاولون تقليدها ومن ثم إصدارها؛ ومع ذلك، فإن تلك الأقلية من الحيوانات المقلدة للأصوات لا تفهم معنى تلك الأصوات التي تصدرها، أي كما نقول «ترددها مثل الببغاء».
بناءً على ذلك، قد نفترض أن البشر هم أفضل المتعلمين الصوتيين؛ فالبشر لديهم القدرة على تعلم كلمات لا حصر لها وتكوينها، وكلٌّ منها يحمل أفكارًا مختلفة. ولكن لعلنا نتساءل، متى بدأ تطور كلامنا ولغتنا؟
تطورت لغاتنا الأم، والمعروفة أيضًا باسم اللغات الطبيعية، وصولًا لشكلها الحالي على مر القرون؛ حيث يفترض العلماء أن اللغة بدأت لأول مرة بين الهومو سَابْيَانْس (الإنسان العاقل) منذ 30.000 إلى 100.000 سنة مضت. ولكن، لسوء الحظ، لا يزال المكان الذي نشأت فيه اللغة وأسرار تطورها غير معروفة؛ ومن هنا، ظهرت نظريات عدة. فهناك نظرية شائعة تفترض أن اللغة كانت السبب الرئيسي لبقاء البشر؛ حيث نشأت اللغة بهدف مساعدة البشر على التواصل فيما بينهم من أجل الصيد والزراعة والدفاع عن أنفسهم ضد بيئتهم القاسية.
وهناك نظرية أخرى منافسة طرحها اللغوي نعوم تشومسكي وعالم الأحياء التطورية ستيفن جاي جولد تنص على أن اللغة كانت ضرورية للتفاعل الاجتماعي، وأنها تطورت كجزء من عمليات التطور. فتناولا في نظريتهما عملية ما قبل التكيف أو التكانف لداروين، التي تتناول كيفية استخدام الفصائل لخصائصها في أغراض أخرى غير التي كانت مهيئة لها. ومن الأمثلة الكلاسيكية التي يناقشها علماء الأحياء التطورية لتلك العملية أن الوظيفة الأصلية لريش الطيور هي حمايتها من الجو البارد، ولكنه تم تكييفه لاحقًا من أجل الطيران.
فيفترض تشومسكي وجولد أن اللغة قد تطورت في حين كان البناء الفيزيائي للمخ في تطور. وعندما شرع الإنسان في اختراع الأدوات المختلفة، أصبحت هناك حاجة لتسمية كلٍّ منها. ويتوافق ذلك مع النظرية التي تنص على أن وظائفنا المعرفية ازدادت في حين كانت عقولنا تنمو.
وفقًا لذلك يتضح لنا أن اللغة ابتكار بشري تطور مع ازدياد الحاجة إلى التفصيل. فكانت المحاكاة الصوتية أساس لغتنا؛ وهذا ما سمح لنا بإصدار عدد هائل من الأصوات ومن ثم تكرارها. نتيجة لذلك، تطورت أشكال مختلفة من اللغات؛ ومن ثم، يمكننا أن نجد اليوم نحو 7.000 لغة مختلفة وحية حول العالم.
ومن خلال ذلك، يمكننا أن نختتم بما قاله عالم النفس المعرفي ستيفن بينكر: «تلك الثلاثية – اللغة والتعاون الاجتماعي والمعرفة التكنولوجية – هي ما ميزت البشر. فعلى الأرجح أنها تطورت بشكل متوازٍ؛ حيث ضاعفت كلٌّ منها قيمة الأخريين».
ومما سبق، قد نلاحظ أن كثيرًا من الآليات المتضمنة، بما في ذلك القدرة على التحكم في الأصوات التي نصدرها، كلها آليات أساسية ويملكها كثير من الحيوانات. مع ذلك، لم تتمكن سوى قلة قليلة منها من محاكاة أصوات البشر والتحدث مثلهم. ولكن، إذا تأملنا الغالبية الأخرى من الحيوانات الأقل قدرة على محاكاة الأصوات البشرية – والتي لا تزال رائعة مثل أقرانها – يمكننا أن نتصور كيفية تطور قدراتنا اللغوية على مر القرون.
*المقال منشور في مجلة كوكب العلم، عدد علوم الحياة (صيف 2017).
المراجع
bbc.com
science.howstuffworks.com
theoryofknowledge.net