يظل الصيف الفصل الذي نستجم به ونسافر خلاله هنا وهناك. ولكن، متى يبدأ فصل الصيف تحديدًا؟ يحدث ذلك في يوم الانقلاب الشمسي الصيفي؛ يوم تكون الشمس في أقصى ارتفاع لها شمال خط الاستواء، ويكون القطب الشمالي للأرض مائلاً بمواجهة الشمس مباشرة بمقدار 23.5 درجة تقريبًا. وعادة ما يحدث الانقلاب الشمسي الصيفي في نفس اليوم من كل عام، 20/21 يونية؛ وهو اليوم الأطول في السنة في نصف الكرة الأرضية الشمالي. إلا أن التاريخ قد يتغير من سنة لأخرى نتيجة للتقويم السنوي الذي يستخدمه الإنسان؛ حيث يبلغ طول العام 365 يومًا، بينما يبلغ طول العام الفلكي 365.24 يومًا. ومن ثم، يتغير يوم الانقلاب الشمسي الصيفي نتيجة لنظام السنة الكبيسة الذي يضيف يومًا للتقويم السنوي كل أربع سنوات.
على الرغم من أنه اليوم الأطول على مدار العام، فإن أول أيام الصيف ليس بالأشد حرًّا؛ فتعمل محيطات الأرض وهواؤها بمثابة مصارف للحرارة؛ حيث تمتص أشعة الشمس وتطلقها طوال الوقت. وهكذا، فبالرغم من أن الكوكب يمتص كميات كبيرة من أشعة الشمس عند الانقلاب الشمسي الصيفي، فإن الأمر يستغرق أسابيع عديدة قبل أن يطلقها مرة أخرى. ونتيجة لذلك، عادة ما يأتي اليوم الأشد حرًّا في الصيف في شهر يوليو أو أغسطس.
ومن المعروف أن الانقلاب الشمسي الصيفي الذي يحدث في شهر يونية مشيرًا لبداية فصل الصيف في النصف الشمالي للأرض يشير في الوقت ذاته إلى بداية فصل الشتاء في نصفها الجنوبي؛ حيث يميل القطب الجنوبي للأرض بعيدًا عن الشمس، مما يجعله اليوم الأقصر نهارًا بالنصف الجنوبي. وهكذا، فإن نلت كفايتك من حرارة الصيف في أي وقت، فكل ما عليك هو أن تحزم أمتعتك وتتجه جنوبًا.
ولا يشهد من يعيش شمال خط الاستواء أطول ساعات النهار فحسب خلال هذا الفصل، بل إن الشمس لا تغرب أبدًا في محيط القطب الشمالي؛ فتظل مشرقة حتى في أثناء الليل، ومن ثم نعتت «بشمس منتصف الليل». وعلى العكس من ذلك، تختفي الشمس تمامًا خلال هذا الوقت من السنة في محيط القطب الجنوبي. وهاتان الحالتان القصويان لا تحدثان على خط الاستواء أو المناطق القريبة منه.
كلمة الانقلاب الشمسي بالإنجليزية «solstic» مأخوذة عن الكلمة اللاتينية «solstitium» والتي تعني «توقف الشمس»؛ حيث تبدو حركة الشمس شمالاً أو جنوبًا وقد تجمدت.
الاحتفال بالصيف في العالم القديم
دائمًا ما كان لبداية فصل الصيف أهمية منذ العصور القديمة. فقد جعل أجدادنا قدماء المصريين يوم الانقلاب الشمسي الصيفي يومًا تقام به الاحتفالات والمراسم. فكان يتميز ذلك الوقت بخصوبته؛ حيث يبدأ موسم فيضان نهر النيل، والذي يترك تربة واديه خصبة بفعل ترسبات الطمي التي مكنت قدماء المصريين من زراعة محاصيلهم.
كان قدماء المصريين يعتقدون أن دموع الإلهة إيزيس التي تذرفها حدادًا على زوجها الفقيد أوزوريس هي ما تجعل النهر يفيض، ولذلك كانوا يقيمون مراسم احتفالية خاصة لتمجيدها في ذلك الوقت من العام. فكان التنبؤ الدقيق بالفيضان مهمًّا للغاية، وقد كان ظهور نجم سيريوس، وهو النجم الأكثر بريقًا في سماء الليل والذي يظهر في وقت الانقلاب الشمسي الصيفي، علامة بدء العام الجديد لدى قدماء المصريين.
كما كان يشير الانقلاب الشمسي الصيفي أيضًا إلى وقت انتصار حورس، إله الشمس لدى قدماء المصريين، على عمه الإله ست وهو إله الظلام والشر. وبانتصار حورس وعودة التوازن والنظام مرة أخرى، يفيض النهر وتعود الحياة إلى وادي النيل من جديد.
كما اعتبر قدماء الصينيين موعد الانقلاب الشمسي الصيفي موعدًا ذا أهمية كبيرة. فكانوا يقيمون المراسم في ذلك الوقت للاحتفال بالأرض وبالقوة الأنثوية المعروفة بـ «ين» وإجلالهما، كما كانوا يبجلون في هذا اليوم أيضًا إلهة الضوء الصينية «لي». وكان ذلك الوقت مرتبطًا بالأنوثة؛ لأن الأرض تتمتع خلاله بالخصوبة وتستعد للحصاد، فتكون الحرارة في ارتفاع، وتكون أشعة الشمس قوية، والأمطار غزيرة مما يوفر الظروف المثلى لنمو المحاصيل.
وقد استطاع قدماء الصينيين تحديد موعد الانقلاب الشمسي الصيفي عن طريق قراءة قياسات حركة الظل باستخدام قطب؛ فرصدوا دورة الشمس وطول الظلال. هكذا، توصلوا إلى أنه عندما يكون الظل في أقصر حالاته تكون الشمس في أعلى نقطة لها في السماء، وهو ما يشير إلى بداية فصل الصيف، بينما يشير الظل الأطول إلى بداية فصل الشتاء.
أما بالنسبة لقدماء اليونانيين، فقد كان يوم الانقلاب الشمسي الصيفي موعدًا للعديد من الاحتفالات، ومنها احتفال «كرونيا» الذي يحتفي بإله الزراعة «كرونوس». ومن الواضح أن بداية فصل الصيف تشير إلى بداية موسم الزراعة؛ حيث تؤتي البذور ثمارها وتعطي ما يكفي لبقية العام. كما كان يعني يوم الانقلاب الشمسي الصيفي أنه لم يتبق سوى شهر واحد على افتتاح الألعاب الأوليمبية.
ولقد بنيت العديد من المباني الأثرية بوضعية مرتبطة بالشمس؛ فيعد أثر ستونهنج الحجري ببريطانيا مثالاً على ذلك. وقد بُني ذلك الهيكل الدائري من الأحجار منذ آلاف السنين وقد صمد أمام اختبارات الزمن. ويتعلق هذا الأثر - بكل تأكيد - بالانقلاب الشمسي؛ حيث إنه عندما تشرق الشمس يوم الانقلاب الشمسي الصيفي تكون على التوازي مع حجر يطلق عليه «حجر الكعب»، وتشرق أشعة الشمس الأولى عبر ممر حجري إلى مركز الدائرة.
يظل أثر ستونهنج الحجري لغزًا إلى يومنا هذا؛ حيث لم يتم اكتشاف الغرض من بنائه كاملاً حتى الآن. وهناك العديد من التفسيرات حول سبب وجوده؛ فيعتقد البعض أنه كان يستخدم بوصفه تقويمًا يُمكّن الإنسان من معرفة الوقت من العام عن طريق ملاحظة العلاقة بين اتجاه أشعة الشمس ومواضع الأحجار. ومن المُعتقد أن كهنة الدرويدية في بريطانيا القديمة كانوا يمارسون شعائرهم وقت الانقلاب الشمسي الصيفي في ستونهنج.
وحتى هذا اليوم، مثلما في الأيام الماضية، لم يزل يعكف الناس على زيارة ستونهنج كل عام لمشاهدة الانقلاب الشمسي الصيفي. ويذهب هناك آلاف الأشخاص، كل شخص يذهب لغرضٍ خاصٍّ به؛ فيذهب البعض في زيارة روحية مثل الدرويدين الحاليين، ويذهب آخرون ليشاهدوا الشروق في صمت، وليأخذوا حمامًا في أشعة الشمس الذهبية، بينما يذهب آخرون للمشاركة في المهرجان؛ حيث يتاح الرقص، والطعام، والموسيقى للجميع. وفي كل الأحوال يتحد الجميع في الاحتفال ببداية صيف جديد.
وتستمر التقاليد الصيفية
ليس ستونهنج بالمكان الوحيد في العالم الذي يشهد الاحتفالات بمناسبة بداية الصيف الجديد؛ فالسويديون مغرمون بالاحتفال بالانقلاب الشمسي الصيفي، ولهذا الاحتفال أهمية تجعل ذلك اليوم عطلة قومية يطلق عليها «ميدسومرداجن» (Midsommardagen)، أي يوم منتصف الصيف.
أحد التقاليد التي يمارسها السويديون، والتي ترجع إلى أسلافهم الفايكينج، تزيين سارية بالنباتات والزهور؛ لتغطيها الزينة تمامًا. ويتم نصب هذه السارية وتأمينها؛ ليبدأ الناس في الرقص حولها. وإلى جانب الرقص، يتمتع الناس بالاستماع إلى الموسيقى الشعبية، وارتداء الملابس الشعبية، وصنع تيجان من الأزهار والأغصان البرية لتزيين رءوسهم. كما يقدم الطعام أيضًا في تلك الاحتفالات، وبخاصة الأطباق الشعبية التي تطهى باستخدام بطاطس الموسم الطازجة.
وفي إستونيا، يحتفي الناس بعيد القديس يوحنا في ليلة يوم الانقلاب الشمسي الصيفي. وقد بدأ الاحتفال بهذه المناسبة قبل دخول المسيحية إستونيا بوقت طويل، ولهذا لم نزل نرى آثار الاحتفاليات القديمة حتى الآن. ومن الطقوس الشهيرة جدًّا إضاءة شعلة؛ حيث ترمز إلى الازدهار، وتجنب الحظ السيئ وإخافة أي روح شريرة تكمن في الجوار.
أما احتفال عيد القديسين في البرتغال، فهو وقت يحظى خلاله المرء بالبهجة والمتعة؛ حيث يتم الاحتفال بالانقلاب الشمسي الصيفي خلاله، وتكون هذه الاحتفالات بمثابة حفل واحد كبير في الشوارع التي يتم تزيينها بالبالونات والأوراق ذات الألوان الساطعة. وتكون هناك مسيرات من مواكب فلكلورية كبيرة تظهر فيها الأزياء الشعبية للسكان من مختلف الضواحي الشعبية بالمدينة؛ حيث تبتهج صفوف المتفرجين بالأعداد الكبيرة من الراقصين والمغنيين. كما يحتفل الناس عن طريق الرقص في ميادين المدينة وتناول الأطعمة التقليدية الطيبة.
أحد القديسين الذين يتم الاحتفال بذكراهم هو القديس أنتوني المعروف باسم القديس الموفِّق؛ حيث جرت العادة بعقد العديد من الزيجات التي ربما تصل إلى مائتين زيجة أو أكثر أثناء الاحتفال. وإن لم تكن مستعدًّا للزواج بعد؛ فيمكنك بكل بساطة أن تعلن عن مشاعرك لشخص ما عن طريق إهدائه أصيصًا به نبات الريحان الجميل آملاً في أن يقدِّر ذلك الشخص رائحته الذكية!
أما في الشرق الأقصى، فيتغير المشهد بعض الشيء. ففي اليابان، يرتبط عرف هانجشو بالانقلاب الشمسي الصيفي؛ حيث يكون في اليوم الحادي عشر بعد وقوعه. وهذا اليوم هو الأخير في أيام زراعة الأرز؛ حيث يقوم الناس بالصلاة والدعاء؛ من أجل أن ترسخ بذوره في الأرض، ولكي تنمو صحيحة وقوية.
ففي بعض البلدان، لا تزال تقام الاحتفالات التقليدية الموسعة، والتي قد بدأت منذ زمن بعيد، احتفاءً ببداية فصل الصيف؛ حيث تُمارس الشعائر، وتُطهى الأكلات الخاصة، وتُدار الموسيقى؛ فهذا هو وقت السعادة والابتهاج للجميع. ولكن في هذه الأيام، وفي ظل العديد من الثقافات الحديثة، تمر هذه المناسبة مرور الكرام بدون أية مظاهر للاحتفال؛ إلا أننا لم نزل، بعد رياح الشتاء الباردة، نترقب دفء الصيف في لهفة. فتظل الحقيقة العالمية باقية، وهي أننا جميعًا نتوق لبداية وقت الصيف؛ لأنه وببساطة وقت المرح.
المقال منشور في نشرة مركز القبة السماوية العلمي، عدد صيف 2012.
المراجع
news.nationalgeographic.com
k-international.com
crystalinks.com
timeanddate.com
courtbard.tripod.com