ذهبت إلى اليابان في عام 2001 في مهمة علمية، وكانت أول مرة أزور فيها هذا البلد الاستثنائي بكلِّ ما تعنيه الكلمة. وكانت مهمتي العلمية هي زيارة لمعهد تاكو-يوكا الموجود ببلدة صغيرة ونظيفة جدًّا مثل كلِّ مدن اليابان وقراها وضواحيها، وهو معهد متخصص في الدراسات النظرية للبحوث الفيزيائية الفلكية. وكان المعهد تمامًا مثلما رأيته في الصور قبل سفري؛ يسوده التناسق التام في كلِّ ما تقع عليه العين من الألوان، ويتم بالبساطة والطابع المعماري المميز لكل المباني والمنشآت اليابانية، ويتجلى فيه بذكاء شديد الطابعان القديم والحديث في الوقت نفسه.
داخل مبنى المعهد وجدت مضيفي يستقبلني بحفاوة وأدب شديدين. وبعد أن جلسنا نتعرف برنامج زيارتي ومجمل البحث الذي سأقوم بتنفيذه هناك، اصطحبني في جولة للتعرف على مرافق المعهد وأعطاني بطاقة تعريف (ID) تتيح لي الدخول إلى المكتبة، واستخدام ماكينة التصوير وغرفة البحث والحاسوب الفائق خلال فترة المنحة هناك.
أيضًا، عرَّفني كيفية التجول في المبنى طابقًا بعد الطابق، وعرَّفني السكرتارية. كلُّ هذا وأنا أسير معه مدهوش للدقة والنظام، وقد زادت دهشتي عندما رافقني إلى مكان موجود آخر المبنى هادئ جدًّا وخافت الإضاءة. دلفنا بهدوء أكثر من المعتاد لأجد كبائن مغلقة مُعلَّقًا على باب كلٍّ منها قائمة بأسماء بعض الباحثين. وفي الكابينة رقم 7 وجدت اسمي معلقًا ضمن بعض الأسماء، وأشار إلىَّ أنه سيعرفني ماهية هذه الكابينة وما يوجد داخلها. وعندما خرجنا من هذا المكان المريح نفسيًّا جدًّا، أخبرني بأن هذه كبائن للنوم في أثناء ساعات العمل!
لم أكن لأصمت وأكتم فضولي حول هذا المكان؛ وكنت في السابق قد سمعت عن تقليد النوم ساعة أو ساعتين خلال وقت العمل وكنت أكذِّب نفسي. ولكن، بعد أن وجدت هذا الأمر واقعًا أمامي، سألت مُضيِّفي عن هذا الأمر فأحالني إلى بحث مختصر حول هذا الموضوع. أكملت يومي الأول، وعندما عدت إلى سكني أول ما فعلته هو قراءة هذا البحث. ومن أهم النقاط التي وجدتها فيه كانت ما يلي:
- كثيرًا ما تتم ترجمة كلمة «إينيموري» اليابانية بـ«النوم في أثناء العمل». ولكن، تقول الدكتورة بريجيت ستيغر ‒ صاحبة البحث والمحاضرة البارزة في الدراسات اليابانية في داونينغ كوليدج، بجامعة كمبريدج، ومؤلفة كتاب عن هذا الموضوع ‒ إن الترجمة الأكثر دقة لتلك الكلمة هي «النوم في أثناء الحضور».
- يُعدُّ الغفو في أثناء العمل أمرًا شائعًا ومقبولًا في الثقافة اليابانية. وفي الواقع، كثيرًا ما يُنظر إليه باعتباره دليلًا على اليقظة والجدِّ والنشاط؛ وذلك لأنه يشير إلى أنك قد اجتهدت في العمل إلى حدِّ الإرهاق.
- هذا التعبير يشير إلى طريقة تعامل اليابان مع عدد ساعات العمل؛ حيث ينظر اليابانيون إلى هذا الأمر باعتباره فرصة للقيام بعدة أمور بشكل متزامن، وإن كان بخطًى وإيقاع أبطأ.
- تنتشر هذه الحالة بين الموظفين رفيعي المستوى الذين يعملون في مختلف المجالات المهنية. فعادة ما يرغب هؤلاء في البقاء متيقظين طوال اليوم حتى يظلُّوا نشطاء في نظر الآخرين. كذلك، لا يمكن أن يغفو عامل على خط تجميع، أو في نوبة الحراسة، أو على ماكينة داخل مصنع مثلًا.
- يعود تاريخ هذا التقليد في اليابان إلى ألف عام، ولا يقتصر على المؤسسات فحسب. فقد يغفو الناس في المتاجر متعددة الأقسام، أو المقاهي، أو المطاعم، حتى في بقعة هادئة على رصيف في مدينة مزدحمة. أيضًا، تشيع ظاهرة النوم في الأماكن العامة في القطارات التي تقوم برحلات يومية، مهما كانت درجة ازدحامها؛ حيث كثيرًا ما تتحول فعليًّا إلى غرف نوم. ولعله من حسن الحظ انخفاض معدلات الجريمة في اليابان.
- تشير صاحبة البحث إلى رأي الدكتور ثيودور بيستور ‒ أستاذ علم الإنسان الاجتماعي في جامعة هارفارد ‒ الذي يقول: يحسِّن النوم سمعتك في المواقف الاجتماعية؛ حيث تذكر ذات مرة غفا فيها زميل لها على الطاولة خلال عشاءٍ جماعي في أحد المطاعم. وقد أثنى عليه الحضور باعتبار ذلك «سلوكًا راقيًا» لأنه فضل المجيء على النوم، ولم يعتذر عن الحضور.
- من أسباب انتشار النوم في الأماكن العامة في اليابان هو عدم حصول الناس على القسط الكافي من النوم في منازلهم. فبحسب دراسة حكومية أجريت عام 2015، ينام 39.5% من اليابانيين البالغين أقل من ست ساعات ليلًا.
- أوضحت دكتورة ستيغر أن انسدال الجفون لا يعني دائمًا أن العين مغلقة حقًّا، فقد يرخي شخصٌ ما جفنه حتى يشيع جوًّا من الخصوصية في مكان يحتاج فيه إلى ذلك. ويعد هذا من الأسباب التي دفعت دكتورة ستيغر إلى القول إنها تستطيع تصور تراجع «الغفو في أثناء الحضور» في اليابان؛ ففي هذه الأيام يمكن للهواتف الذكية أن تنقل الناس إلى مساحاتهم الخاصة وأعينهم مفتوحة.
في اليوم الثاني حاولت النوم في الكابينة رقم 7 في وقت الراحة المخصص لي. ولكن بالطبع لم أتمكن من النوم؛ حيث شعرت أنني أرتكب جرمًا أو أغتصب شيئًا ليس من حقي في وقت العمل على الرغم من أنه حق أصيل ومشروع لدى اليابانيين لكي تجدد طاقتك ونشاطك وتعطي وتنجز بشكل أكبر وأدق.
*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد ربيع 2018