العمارة العكسية

شارك

طوال أعوام دراستي الجامعية لتاريخ الفن أذهلتني تلك المباني البديعة التي بدت كأنها شكلت منذ قديم الأزل من الأحجار ومواد البناء الأخرى بضرب من الإعجاز؛ لتضحى صروحًا تنضح قوة وأناقة. إلا أن الدراسة لا تضاهي بأي قدر زيارة تلك الروائع المعمارية؛ حيث يتساءل المرء كيف كان لتلك الحضارات القديمة التي لم تمتلك أي آلات قوة على الإطلاق بناء مثل تلك المعالم الشامخة، ومنها: المعابد في صعيد مصر، وعلى سفوح اليونان وإيطاليا؛ وأهرامات الجيزة وتيوتيهواكان في المكسيك، وفي أماكن أخرى من العالم، والكولوسيوم، وغيرها الكثير.

مع ذلك، فأكثر شيء بهرني هو ما أسميته «العمارة العكسية»! حسنًا، ليس هذا مصطلحًا علميًّا؛ ولكنه ما يصف – بالنسبة إلي على الأقل – «العمارة الحجرية». فمنذ عامين تقريبًا كان لي حظ زيارة إحدى عجائب العمارة الحجرية، وهي مدينة البتراء السرمدية المنحوتة منذ مئات السنين في باطن جبال الصحراء الأردنية. شاهد الفيديو القصير التالي؛ لتعرف نبذة عن مدينة البتراء:

ولاختبار الشعور بزيارة البتراء، شاهد الفيديو التالي:

إلا أن هذه لم تكن المرة الأولى التي أذهلتني فيها «العمارة العكسية»؛ فقد كانت تجربتي الأولى معها منذ قرابة ربع القرن عندما زرت وادي الملوك في الضفة الغربية لمدينة الأقصر بصعيد مصر. هناك، تجولت داخل بعض مقابر الفراعنة المختبئة بشكل عبقري داخل صخور الوادي منذ آلاف السنين. وفكرة أن تلك الهياكل الباهرة قد نحتت عوضًا عن أن تبنى، وبشكل مذهل حتى إنها قاومت مرور الزمن لعصور طويلة، هي أمر أكاد لا أصدقه لولا أنني رأيته رأي العين.

فحرصًا على سلامة مدافنهم العامرة بالثروات، قام فراعنة المملكة الحديثة (1539-1075 قبل الميلاد) بإخفاء مقابرهم في وادٍ وحيد بين التلال الغربية خلف الدير البحري. تنوعت مخططات تلك المقابر إلى حد كبير عبر الأزمنة، إلا أنها تكونت دائمًا من ممر منحدر يتخلله مناور عميقة لتضليل اللصوص، بالإضافة إلى حجرات وأبهاء زينتها الأعمدة. وفي نهاية الممر كانت تقع حجرة الدفن؛ حيث كان أقدمها على شكل الخرطوش. كانت الخطة أن يملأ الجزء العلوي من الممر بالحجارة، وأن يخبأ مدخل المقبرة بعد الانتهاء من الدفن.

في المقابر الأقدم كانت الممرات تنحني بما لا يقل عن 90 درجة مرة واحدة على الأقل، وكان يطلق على ذلك المخطط «المحور المثني»؛ إلا أنه بعد حقبة العمارنة تحول المخطط تدريجيًّا مرورًا بمخطط «المحور الأعوج» وصولًا إلى مخطط «المحور المستقيم» في مقابر الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين. ومع استقامة محور المقبرة قل انحدارها أيضًا؛ فلم تعد منحدرة على الإطلاق بحلول الأسرة العشرين. ومن الخصائص الأخرى الشائعة في تلك المقابر وجود «البئر» التي ربما كان وجودها يعمل حائلًا ضد فيضان المياه التي تدخل الأجزاء السفلية من المقبرة.

وطبيعة الصخور في الوادي غير متسقة؛ فهي تتراوح ما بين صخور الحبيبات الناعمة والصخور الخشنة، وهو ما قد يجعلها غير ثابتة هيكليًّا. كذلك شكلت الطبقات المتفاوتة من الطَفل الصَفحي عائقًا ضد إنشاء المقابر والحفاظ عليها؛ فتلك الصخور تتمدد في وجود الماء؛ مما يؤدي إلى تفكك الصخور حولها. ويعتقد أنه قد تم تعديل شكل بعض المقابر وحجمها حسب نوع الصخور التي قابلها البناءون. ومع ذلك، استفاد البناءون من الخصائص الجيولوجية المتاحة؛ فنحتت بعض المقابر في شقوق الصخور الحجرية الموجودة، في حين نحتت أخرى خلف المنحدرات الحجرية، أو على حافة النتوءات الصخرية التي شكلتها قنوات الفيضان القديمة.

كان العمل في مقابر وادي الملوك يسند إلى معماري وحرفيين كانوا يعيشون في قرية دير المدينة؛ حيث يشرف المعماري على الأعمال التي يقوم بها الحرفيون، الذين انقسموا عادة إلى فرقتين: يمين ويسار. تكونت الفرق عادة من 30 إلى 60 عاملًا؛ وأحيانًا كان يصل عدد العمال إلى 120 عاملًا. وقد قُسم العمال إلى: قاطعي الأحجار، ومجصصين، ونحاتين، ورسامين، وفنانين قاموا بتزيين الأسطح؛ حيث كان العمل يتم فيما يشبه خط الإنتاج.

فأولًا، كان يأتي عمال المحاجر الذين كانوا يقومون بحفر المقبرة داخل الجبل، ويليهم المجصصون الذين كانوا يقومون بتسوية الجدران باستخدام المونة المصنوعة من الطمي والكوارتز والحجر الجيري وكسارة القش. وفوق تلك الطبقة كانوا يضعون طبقات رقيقة من الطمي والحجر الجيري المبيض باستخدام طبقة من الجبس المخفف؛ حيث كان يرسم الرسامون التصميمات عليها. فكانوا يستخدمون الصبغة الحمراء لتقسيم أسطح الجدران والسقف إلى مربعات لوضع الرسوم والكتابات في مكانها الصحيح؛ ثم يقوم كبير الرسامين بمراجعتها وتصحيحها إن لزم الأمر باستخدام الفحم الأسود. أخيرًا، يأتي دور النحاتين الذين كانوا ينحتون المنحوتات، التي يقوم بعد ذلك الفنانون بتلوينها باستخدام ستة ألوان أساسية ذات معانٍ رمزية وطقسية.

هكذا، كان الحفر يتم في الأجزاء الأعمق من المقبرة، في حين يكون العمل قرابة المدخل قد أشرف على الانتهاء. فعلى الرغم من أنه لم تتوافر سوى أدوات بدائية، فإن المقبرة المتوسطة كان العمل يكتمل بها في غضون شهور؛ إلا أن المقابر الأكبر والأكثر تعقيدًا كانت تستغرق من ست إلى عشر سنوات لتكتمل.

أرشح لك مشاهدة الفيلم الوثائقي التالي، ومدته خمسون دقيقة، لتعرف بعض أسرار وادي الملوك:

المراجع

britannica.com
touregypt.net

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية