عمارة الإسكندرية القديمة المفقودة

شارك

يوم 15 إبريل 2019، شاهد العالم أجمع بحزن الحريق الذي كاد يقضي على كاتدرائية نوتردام الشهيرة بالعاصمة الفرنسية باريس؛ حيث اشتعلت ألسنة اللهب في المبنى الأثري لساعات طويلة لسبب ليس معروفًا حتى الآن. ولحسن الحظ أنه تم إنقاذ المبنى الأيقوني قبل أن ينهار تمامًا بحيث يمكن ترميمه لإعادته لسابق عهده في يوم من الأيام. وقد حركت تلك الحادثة مشاعر الناس حول العالم؛ فشعرت مثل ملايين غيري بالأسف لفقدان مثل هذا الأثر المعماري ذي التاريخ العريق بعد أن صمد قرونًا طويلة مشحونة بالأحداث والمخاطر، وإن لم تكن الخسارة تامة. لقد حالفني الحظ وزرت تلك الكاتدرائية العريقة منذ سنوات؛ حيث تأملت تفاصيلها المتميزة – بالأخص التماثيل الأسطورية الفريدة التي تزين حوافها وتعمل عمل المزاريب. وإنني لآمل أن أزورها مجددًا بعد أن تستعيد رونقها من جديد.

إلا أن تلك الواقعة قد ذكرتني بأعمال معمارية أيقونية أخرى تعددت عبر العصور، وكانت ذات أهمية ومعانٍ تاريخية وعاطفية عميقة الأثر، ولكن للأسف فقدانها إلى الأبد. ولأن لمصر تاريخًا طويلًا ومتشابكًا – إن لم يكن الأطول والأكثر تشابكًا على الإطلاق – منذ بدء الخليقة، فإننا قد فقدنا كنوزًا لا حصر لها من التراث المعماري عبر آلاف السنين. فهنا في مدينتي الإسكندرية فقط كان من ضمن كثير مما فقدنا مكتبة الإسكندرية القديمة، التي كانت المكتبة الأعرق والأشهر في العالم القديم، كما فقدنا فنار الإسكندرية الذي كان من عجائب العالم السبعة القديمة.

وليس لدينا تصور واضح عن عمارة مكتبة الإسكندرية؛ إلا أن قيمتها كمبنى أيقوني تتخطى العمارة بكثير. وللكتابة عن مكتبة الإسكندرية القديمة، لم أجد مصدرًا أفضل من مداخلة في موسوعة بريتانيكا بقلم الدكتور مصطفى العبادي، وهو العالم الجليل الذي دعا إلى إحياء مكتبة الإسكندرية؛ فأثمرت جهوده عن تأسيس مكتبة الإسكندرية الحديثة التي فتحت أبوابها للجمهور في عام 2002. وهي المكان الذي أشرف بالعمل فيه منذ عام 2004. وفيما يلي مقتطفات من الكنوز المعرفية التي منحنا إياها الدكتور العبادي – رحمه الله.

كانت مكتبة الإسكندرية المكتبة الأشهر في العصور الكلاسيكية القديمة؛ حيث شكلت جزءًا من المعهد البحثي الذي عرف بمتحف الإسكندرية أو «الموزيون» بمعنى «المكان المقدس للفكر». ومما مميز مكتبة الإسكندرية القديمة عالميتها؛ فارتباطها بالموزيون حيث احتاج الباحثون إلى الموارد المعتمدة، ساعد المكتبة على التطور لتصبح مركزًا بحثيًّا حقًّا، كما أن موقعها بالقرب من الميناء وفي محيط القصر الملكي قد وضعها تحت الإشراف الملكي المباشر؛ ما ساعد على نمو مجموعتها بسرعة كبيرة.

ففي غضون نصف قرن من الزمان على نشأتها نحو عام 295 قبل الميلاد فاقت مجموعات المكتبة مساحتها، ما دفع الملك بطلميوس الثالث (246-221 قبل الميلاد) إلى عمل فرع للمكتبة في مبنى السيرابيوم المنشأ حديثًا الذي يقع بعيدًا عن الحي الملكي. وقد تفاوتت الأعداد التقديرية للكتب التي احتوتها المكتبة؛ حيث كان أقدم تقدير مسجل في القرن الثالث قبل الميلاد «أكثر من 200 ألف كتاب»، في حين تشير كتابات جون تستسس التي ترجع إلى العصور الوسطى إلى «42 ألف كتاب في المكتبة الخارجية، و400 ألف كتاب مختلط في المكتبة الداخلية (الملكية)، بالإضافة إلى 90 ألف كتاب غير مختلط»، كما يوجد تقدير أعلى يبلغ 700 ألف كتاب تم تسجيلها بين القرنين الثاني والرابع الميلاديين.

كانت المكتبة الملكية ضحية الحرب بين كليوباترا وأخيها بطلميوس الثالث عشر؛ إذ انحاز يوليوس قيصر إلى كليوباترا. وقد انتهى الأمر بحصار القوات البطلمية لقوات القيصر على الأرض وفي البحر. فما كان من يوليوس قيصر إلا أن أضرم النيران في أسطول العدو؛ فقد كان ذلك سبيله لتحويل مسار الأحداث. وقد حلت المكتبة الابنة محل المكتبة الأم التي احترقت حتى القرن الرابع الميلادي؛ حيث حماها وجودها داخل السيرابيوم في ظل الوثنية. إلا أنه عندما أصبحت المسيحية هي الديانة الوحيدة المعترف بها داخل الإمبراطورية اجتاحت الإمبراطور ثيودوسيوس الأول الرغبة في إزالة أي مظهر للوثنية؛ فأصدر مرسومًا في عام 391 يجيز هدم المعابد في الإسكندرية. ونتيجة لذلك قاد أسقف الإسكندرية ثيوفيلوس هجومًا على السيرابيوم.

أدعوكم إلى قراءة المقال الكامل للدكتور مصطفى العبادي من خلال هذا الرابط: https://www.britannica.com/topic/Library-of-Alexandria. ولنظرة موجزة على تاريخ مكتبة الإسكندرية القديمة، أدعوكم إلى مشاهدة الفيديو القصير التالي.

ومن ناحية أخرى، كان فنار الإسكندرية نصرًا تكنولوجيًّا في عصره، وقد بني نحو عام 280 قبل الميلاد، ومن ثم أصبح النموذج الأصلي لجميع المنارات منذ ذلك الحين. قام سوستراتوس من كنيدوس ببناء الفنار على الأرجح لبطلميوس الأول سوتر، وقد انتهى من بنائه في عصر ابنه بطلميوس الثاني. بني الفنار على جزيرة فاروس في ميناء الإسكندرية، ويقال إن ارتفاعه فاق 110 أمتار؛ فقد كانت الأبنية الوحيدة التي تفوقه طولًا منه في ذلك الحين أهرامات الجيزة.

وعلى الرغم من أننا لا نعرف كثيرًا عن فنار الإسكندرية، فإننا نعرف كيف كان شكله. فقد كان رمزًا للإسكندرية، وظهرت صورته في عديد من الأماكن، بما في ذلك على العملات القديمة. وحسب المصادر القديمة تكوَّن الفنار من ثلاثة أجزاء، جميعها يميل قليلًا ناحية الداخل؛ الجزء السفلي كان مربعًا واحتوى على مكاتب حكومية وإسطبلات؛ وأما الجزء الأوسط فكان مثمنًا، وكان به شرفة حيث تمكن الزائرون من الجلوس والاستمتاع بالمنظر في أثناء احتساء المرطبات؛ وأما الجزء العلوي فكان أسطوانيًّا، وحمل الشعلة التي اشتعلت طوال الوقت لحماية الملاحين. أخيرًا، كان يعتلي الفنار تمثال لبوسايدون إله البحر لدى الإغريق.

ولا نعرف ما الذي كان يبقي الشعلة مشتعلة أعلى الفنار؛ فلا يرجح أن تكون قد استخدمت الأخشاب لندرتها في المنطقة. وبغض النظر عما كان يستخدم، فإن إضاءة الفنار كانت فعالة؛ حيث استطاع الملاحون رؤيتها من على بعد أميال؛ ما ساعدهم على الوصول إلى الميناء بسلام. وقد صمد فنار الإسكندرية لألف وخمسمائة عام؛ إذ تخطى عمر الإمبراطوريتين الإغريقية والرومانية، وصولًا إلى عصر العرب. ولم تتضاءل أهميته حتى انتقلت عاصمة مصر من الإسكندرية إلى القاهرة. وبعد أن حافظ فنار الإسكندرية على سلامة الملاحين لقرون طويلة من الزمان دمره زلزال في نحو عام 1375.

المراجع

britannica.com
thoughtco.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية