انقذ الكوكب... ازرع شجرة

شارك

عادة ما يقترن اللون الأخضر بالإيحاءات الإيجابية؛ فهو رمز عالمي للطبيعة، والبيئة، والنمو، والخصوبة. إن كنت من مواليد الثمانينيات، فغالبًا ما ستتذكر أغنية صفاء أبو السعود الشهيرة التي تقول «اللون الأخضر قدم الخير» في إشارة للزرع. أيضًا، وردت الأشجار الخضراء كأحد علامات جمال الطبيعية في أغنية لويس أرمسترونج الشهيرة «ياله من عالم رائع!».

أوليس الصباح المشمس في الريف أجمل وأهدأ شيء على الإطلاق؟ ولكن، يعيش 55٪ من سكان العالم حاليًّا في المدن، كما أنه من المتوقع أن ينتقل 15٪ من السكان من الريف إلى الحضر بحلول عام 2050. هكذا، يحتاج سكان المدن المتزايدون إلى مزيد من العناصر الخضراء لكسر رتابة الخرسانة، والطوب، والصلب، والأسفلت.

بشكل مثالي، يجب أن تضم المدن ثلاثة عناصر تكوينية: (1) العنصر الرمادي، متمثل في الأبنية، والطرق، ومواقف السيارات؛ (2) العنصر الأزرق، متمثل في الأنهار، والبحيرات، والقنوات المائية؛ (3) العنصر الأخضر، متمثل في العشب، والأشجار، والشجيرات في الشوارع، والحدائق، والمنتزهات. وفقًا للمصممين العمرانيين والمعماريين البيئيين، فإن التفاعل بين هذه العناصر الثلاثة ضروري لمواجهة مختلف التحديات الحضرية.

فوائد الأشجار في المناطق الحضرية

نظرًا لأن الاستثمار في العناصر أو البنية الرمادية يحقق أرباحًا سريعة، فإن عديد من المدن – خاصة في الدول النامية – تتغافل القيمة الكبرى للبنية الخضراء. في الواقع، إن الأشجار في المناطق الحضرية يمكنها أن تقدم كثيرًا للبيئة، والمناخ، والاقتصاد، وجودة الحياة برمتها. كما إنها تؤدي دورًا محوريًّا نحو تحقيق الهدف الحادي عشر من أهداف التنمية المستدامة: «مدن ومجتمعات محلية مستدامة».

الفوائد البيئية

للأشجار عديد من الفوائد البيئية، إذ تقدم ما يُعرف بخدمات النظام الإيكولوجي. الفائدة الكبرى هي إنها تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون الدفيء سيئ السمعة وتنتج غاز الأكسجين، ما يسهم في مكافحة تغير المناخ. كما تلقي الأشجار بظلالها وتطلق بخاء الماء، ما يسهم في خفض درجات الحرارة. هكذا، فإن الأشجار تخفف من تأثير الظاهرة المعروفة بالجزر الحرارية الحضرية التي تغير الأنماط المناخية.

تساعد الأشجار المدن أيضًا على التكيف مع التأثيرات المدمرة للكوارث الناجمة عن تغير المناخ. فهي تُبطئ حركة مياه العواصف، ما يقلل من حجم المياه الإجمالي وزخمها، وبالتالي يحدُّ من تآكل التربة والفيضان. أوراق الأشجار، وفروعها، وجذوعها تعترض طريق مياه الأمطار؛ فيتبخر جزء منها مرة أخرى إلى الغلاف الجوي، ويُمتص جزء في الأرض. يسهم هذا أيضًا في منع مياه العواصف من نقل الملوثات إلى مياه المحيطات والمسطحات المائية.

وإلى جانب مساهمة الأشجار في حل مشكلات تغير المناخ، فإنها تسهم أيضًا في ازدهار التنوع الحيوي في المناطق الحضرية. فتُعدُّ زراعة مختلف أنواع الأشجار والشجيرات في حدِّ ذاتها تعزيزًا للتنوع الحيوي، وهي أيضًا تؤمن المأوى والطعام والحماية لكثير من الأنواع الحية مثل الطيور، والنحل، والسناجب. علاوة على هذا، فإن الأشجار تحافظ على السلعة الأكثر قيمة في عالمنا، وهي المياه العذبة. فالأشجار تزيد مخزون المياه الجوفية الذي يتراجع شحنه في المدن بشكل كبير نتيجة انتشار الطرق المُعبدة. كما يقلل ظل الأشجار من تبخر المياه من العشب في المنتزهات؛ وفيما تنضح الأشجار، فإنها تزيد الرطوبة في الجو.

عادة ما ترتبط المدن بمستويات عالية من التلوث؛ فهي تمثل أكثر الأماكن تلوثًا في العالم، والأشجار تحارب مختلف أنواع التلوث. أولًا، الأشجار تحسن جودة الهواء من خلال احتجاز الملوثات الحضرية والجسيمات الناجمة عن حرق المواد الحيوية والوقود الأحفوري. فتحتجز الأوراق والسيقان والأغصان هذه الجسيمات إلى أن تغسلها مياه الأمطار وصولاً إلى الأرض. وثانيًّا، تعمل الأشجار على تنقية مياه الأمطار والمياه الجوفية، ما يسمح بوصول كميات أقل من المواد الكيميائية إلى مسطحات المياه العذبة. وثالثًا، تحدُّ الأشجار من ضوضاء المدن عن طريق امتصاص الموجات الصوتية لخلق بيئة أكثر سلامًا.

الفوائد الصحية

تؤدي الأشجار دورًا رئيسيًّا في الصحة البيئية، وهي فرع من فروع الصحة العامة يهتم بتأثيرات البيئة المحيطة في صحة الإنسان. فهي تحسن الصحة الجسدية والعقلية، وتعزز الرفاهية والاسترخاء.

وقد أظهرت الدراسات أن الناس يخرجون ويمارسون التمرينات بشكل أكثر عندما تكون البيئة المحيطة بهم غنية بالخضرة. وهكذا، فإن وجود الأشجار في المناطق الحضرية يشجع على النشاط البدني ويخفض مستويات السمنة والأمراض المتعلقة لها في المدن. تعطي المنتزهات في المناطق الحضرية فرصة لممارسة تمرينات اللياقة البدنية؛ فأصبحت أماكن عامرة بممارسي المشي، والركض، وقيادة العجل، والتنزه.

كما أن الأطفال الذين يقضون أوقاتًا أطول في الأماكن الطبيعية ينمون مهارات تركيز أكبر، ويكونون أقل عرضة للإصابة باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة. وتخفف الأشجار من تأثير اضطراب نقص الطبيعة، وهي حالة تنجم عن قضاء وقت طويل في الأماكن المغلقة، خاصة تلك التي لا تظل نوافذها على الخارج.

تنعكس خدمات النظم الإيكولوجية التي تقدمها الأشجار للمدن أيضًا بشكل إيجابي على صحة قاطنيها. فمن دون الأشجار، ستجد الجسيمات الضارة والانبعاثات الغازية طريقها إلى رئة الناس، ما يعرضهم للإصابة بحالات الربو وغيرها من الأمراض التنفسية والسرطانية. علاوة على هذا، من شأن وضع التوزيع الاستراتيجي للأشجار في المدن أن يقلل درجات الحرارة بمعدل 2–8 درجات مئوية، ما يخفف من وطأة الموجات الحارة التي تودي بحياة الآلاف حول العالم سنويًّا.

هذا، ولا تقوم الأشجار بحمايتنا من المخاطر الصحية فحسب، بل تسرع فترة التعافي وترفع متوسط الأعمار. على سبيل المثال، وجدت دراسة أن المرضى الذين تطل غرفهم على مشهد الأشجار يقضون وقتًا أقصر في المستشفيات بعد إجراء العمليات. كما وجدت دراسة أجراها باحثون في جامعة هارفارد أن معدلات الوفيات الطبيعية للسيدات اللاتي لا يحيط بهن خضرة يزيد بمعدل 12٪.

الفوائد الاقتصادية

على الرغم من أن كثيرين يغفلون الفوائد الاقتصادية للأشجار، فإنها فوائد مهمة. أولاً، الأشجار توفر مئات فرص العمل؛ حيث تحتاج إلى من يزرعها، ويرويها، ويقلمها، ويكافح آفاتها، وغيرها. ثانيًا، توفر الأشجار الأخشاب لأغراض التدفئة والطهي، والمنتجات الغذائية؛ مثل المكسرات والفواكه، والزهور الجميلة. ثالثًا، الأشجار توفر الطاقة؛ فوفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة، توفر الأشجار نحو 20–50٪ في الطاقة المستخدمة في التدفئة إذا ما زُرعت بطريقة مناسبة حول البنايات.

والآن، دعونا نتحدث عن الأمور المالية! فقد وُجد أن الأشجار تزيد من قيمة الممتلكات بنسبة 20%؛ فالمساحات الخضراء في حيٍّ ما تزيد من قيمة العقارات في المناطق المجاورة. أيضًا، الشقق والمكاتب التي تحيط بها الأشجار تُباع أو تؤجر بشكل أسرع من غيرها، وكذلك تُسكن غرف الفنادق بشكل أسرع ويبقى النزلاء فيها لفترات أطول. كما يقوم المتبضعون بشراء مزيد من المنتجات من المتاجر الواقعة في مناطق مأهولة بالأشجار الظليلة.

أخيرًا وليس آخرًا، للأشجار تأثير على الشركات ومواردها البشرية أيضًا. فقد وجدت الأبحاث أن الموظفين الذين لا يتمتعون بمناظر طبيعية من شرفات مكاتبهم يمرضون أقل بنسبة 23٪ ممن يطلون على مشاهد تكسوها الخضرة. كما أن الفريق الثاني أكثر إنتاجية وذو نسبة إجازات أقل.

الفوائد الاجتماعية

تستطيع الأشجار خلق الصداقات والحدِّ من الجرائم! فقد أوجدت الدراسات رابطًا مباشرًا بين كمية الأشجار والعشب في مناطق التجمعات العامة في مجتمع ما وبين التواصل المجتمعي بين سكانه. وفقًا لدراسة أجريت عام 1996 في جامعة إلينوي، فإن المنتزهات وأشجارها تمثل أماكن يلتقي فيه الجيران ويتعارفون. هذا، وتتطور تلك الصداقات بعد ذلك إلى شبكات دعم تعمل على خفض مستويات الخوف في حيِّ ما. بالمثل، استنتجت دراسات أخرى أن المناطق السكنية الحضرية التي تتمتع بأشجار أكثر تشهد عنفًا أقل من غيرها.

بالإضافة إلى ذلك، تعمل بعض الأشجار بمثابة معالم ثقافية وتاريخية في بعض الأماكن، وبالتالي فإنها تمثل جزءًا من هوية المكان وتكون مصدر فخر لقاطنيها. في عام 2017، وقف سكان محافظة الإسماعيلية المصرية المستنيرون مدافعين عن شجرة التين البنغالي التاريخية التي كادت شركة إنشاءات أن تزيلها لإتمام أحد مشروعتها. واستجابة لموقفهم، قامت الحكومة باتخاذ الإجراءات لحماية الشجرة التي تعود إلى أيام الخديوي إسماعيل، تحديدًا في أثناء حفر قناة السويس. وقد شهدت الشجرة نفسها الخطبة التي ألقاها القائد الفرنسي شارل ديجول في أثناء زيارته للمدينة عام 1940، وقد أوصى الرئيس الراحل أنور السادات بحمايتها في أثناء فترة إعادة إعمار المدينة بعد حرب 1973.

الآن وقد أصبحت تعرف كل هذا، أنصحك بأن تتحرك فورًا. تعاون مع جيرانك أو زملائك وازرع شجرة. قد تحتاج إلى مساعدة الخبراء لاختيار المكان المناسب، مع الأخذ في الاعتبار إعدادات البنية التحتية للمدن، وأفضل أنواع الأشجار التي يمكن زراعتها في مكان معين.

إن الأشجار في المناطق الحضرية هي أكثر من مجرد عناصر تجميلية أو علامات مميزة لمشروعات الإسكان الفخمة. فالأشجار تستطيع تحقيق تقدم كبير نحو الاستدامة. الأشجار تستطيع أن تنقذ الأرواح، بل وأن تنقذ الكوكب بأكمله.

المراجع

fao.org
health.usnews.com
nature.org
nrcsolutions.org
southernforests.org
state.sc.us
treepeople.org


*المقال الأصلي منشور في مجلة كوكب العلم، عدد أهداف التنمية المستدامة II (ربيع 2019).

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية