دكتور جيكل ومستر هايد: الخير والشر في النفس البشرية

شارك

لا زلت أذكر أحداث الرواية العالمية «دكتور جيكل ومستر هايد» التي قرأتها أكثر من عشر مرات في المرحلة الثانوية، تلك الرواية التي تعد من الكلاسيكيات التي أثرت كثيرًا في تاريخ الأدب، وكذلك في نظرة كثير من المفكرين في النفس البشرية وغرابتها؛ إذ تدور أحداثها عن أكبر تضادين في الحياة كلها وهما الخير والشر.

نشأ دكتور جيكل في عائلة محترمة ثرية، وتربى تربية مهذبة، ولكنه دائما ما كان يشعر بالطيش بداخله، ولكن طريقة حياته ونشأته منعتاه من تحرير هذا الطيش، فكان يشعر بأنه يعيش حياة مزدوجة.

منذ بدء الخليقة والخير والشر في حرب مستمرة؛ فأحيانًا ينتصر الخير وأحيانًا ينتصر الشر. ولكن هناك قناعة في نفوسنا أن الخير سينتصر دائمًا في النهاية؛ تلك القناعة زرعتها فينا الأفلام والروايات أو حتى معتقداتنا الدينية. فهذا الرجل الفاسد الذي يسرق أموال الفقراء يجب أن يُعاقب في النهاية، وهذا البطل المغوار الذي ينقذ الأبرياء يجب أن يجد السعادة في النهاية؛ ولكن، هل يعلم أي منا متى تأتي تلك النهاية؟

تلك الحرب الدائمة بين الخير والشر ربما كانت واضحة فيما مضى، لأن لكل منهما كيان منفصل يمكن تمييزه، ولكن ماذا لو كان الخير والشر يمثلهما كيان واحد، أو شخص واحد؟

فكر دكتور جيكل أن الإنسان ربما لا يكون واحدًا، بل اثنين وربما أكثر، لذا اخترع تركيبة دواء لفصل الشخصين بداخله، وكانت النتيجة ظهور مستر هايد

الجهاز النفسي للإنسان

تشرح الدكتورة جيهان عبد الحميد، الطبيبة النفسية وعضو الجمعية الأمريكية للطب النفسي، الجهاز النفسي للإنسان لنجده ينقسم إلى ثلاثة محاور افتراضية: الرغبة ID، الأنا EGO، والأنا العليا أو الضمير Super EGO.

تمثل الرغبة الجزء الأرضي في الإنسان، وهو ما يمكن أن نطلق عليه – افتراضيًّا – الجزء الشرير، وهو ما يلح على الإنسان للقيام بالأعمال التي يرغب فيها بغض النظر عن مشروعيتها؛ على سبيل المثال، يمكن أن يجد شخصًا شيئًا ثمينًا وهو في احتياج إلى المال، فتلح عليه رغبته في الاستيلاء عليه. أما الضمير فهو الجزء الذي يردع الرغبة بداخلنا، فيشعر الشخص بالرفض النابع من داخله في الاستيلاء على ما ليس له.

ثم يأتي دور الأنا في التنظيم بين الرغبة والضمير، إذ تركهما بلا منظم داخلي يشعل الحرب بينهما. فإن فاز الضمير ظل يؤنب الإنسان طوال الوقت وربما أصيب بالوسواس القهري، وإن فازت الرغبة صار الإنسان شهواني يعيث في الأرض فسادًا دون رادع من داخله.

ظهر مستر هايد ذلك الرجل الضئيل الجسم الكريه المظهر، يجوب الشوارع ليلًا ليتورط في مشاكل وجرائم كثيرة، ويشعر بالمتعة عندما يؤذي الآخرين، ولكن ضمير جيكل طالما كان يعذبه عما يفعله هايد، وفي نفس الوقت كانت أفعاله الشريرة ترضي شيئًا بداخله

التأثير الاجتماعي في مراحل العمر المبكرة على نفسية الإنسان

تشير الدكتورة جنيفر كونست طبيبة الأمراض النفسية إلى أن هناك عديد من الأشخاص الذين يعانون في بدايات حياتهم (مرحلة الطفولة تحديدًا) من الإهمال والفقر وسوء المعاملة، وبالرغم من ذلك تجدهم يجاهدون تلك العقبات؛ فينبثق أفضل ما فيهم وينعكس على توجهاتهم في الحياة. وعلى النقيض تجد أشخاصًا يحظون بأفضل رعاية واهتمام إلا أن توجهاتهم في الحياة من السيء إلى الأسوأ.

تؤكد الدكتورة كونسيت أننا لدينا جميعًا نفورًا ضد عمل الخير والصلاح منذ الولادة، وأن بداخل كل منا دافع شر يريد التدمير والفساد والانتقام؛ وبالرغم من رأيها هذا إلا أنها تعتقد أيضًا أن كل منا يحمل بداخله بذور الخير، والتي تنبت الحب والرعاية والمساعدة.

الأسباب العلمية وراء الدوافع الإنسانية

إن كل ما يؤثر على النفس البشرية يترجم إلى مواد كيميائية داخل المخ؛ فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالسعادة حين يرى منظرًا طبيعيًّا جميلًا، أو يسمع كلمة طيبة، أو يأكل وجبة لذيذة. ذلك لأن كل تلك المؤثرات الخارجية تحفز إفراز هرمون السيروتونين المسئول عن الشعور بالسعادة. على النقيض ينخفض نسبة هذا الهرمون إذا واجه الإنسان لحظات ضعف أو فشل؛ فيشعر بالتعاسة أو الحزن.

بالنسبة لهرمون الدوبامين، فهو هرمون وناقل عصبي في الوقت ذاته، ويُنتج من منطقتين في الدماغ؛ الجزء الذي يُنتج من المنطقة الأولى مسئول عن الحركة في جسم الإنسان. الجزء الثاني، وهو المعني في حديثنا هنا، هو المسئول عن الشعور بالمكافأة والانتصار والغبطة؛ تلك التي يشعر بها من ينجز عملًا، أو ينجح في امتحان، أو يأكل بعض الشوكولاتة، كذلك يشعر به من يساير رغباته «الشريرة»، كأن يضرب أو يقتل أو يسرق. وهنا نجد أن الطريقة التي يمكن إشباع العقل بها من الدوبامين تختلف من شخص إلى آخر؛ فهناك من يشبعه بالأعمال الطيبة والمشروعة، وهناك من يشبعه بالأعمال غير المشروعة.

ثم بدأت شخصية هايد في التتضخم لتصير أكثر قوة، وحينها اختار جيكل أن يتخلى عن الشر بداخله خوفًا من أن يتتمكن منه، وظل شهرين كاملين دون أن يتناول تركيبته العجيبة، ولكنه كان يفكر دائمًا في العودة

ما وراء الخير والشر

يتحدث الدكتور ترافيس لانغلي عن أن الخير والشر أعمق من كونهما أبيض وأسود، مستشهدًا بالفيلسوف نيتشيه الذي قلب المفاهيم التقليدية عن الخير والشر في كتابه «ما وراء الخير والشر / جينيالوجيا الأخلاق» عام 1886.

ففي رأي الدكتور لانغلي من الصعب في عصرنا هذا تمييز الأخيار (الأبطال) من الأشرار مثلما كان في الماضي؛ فمن الجلي أن نرى بعض القصور في نفوس الأبطال، كما يمكن أن نلمس جوانب إنسانية في بعض الأشرار. كل البشر، حتى الأبطال الأخيار في الأساطير القديمة، لديهم نقاط ضعف؛ تلك التي تتمثل في الإخفاق، والغيرة، والحقد، والرغبة في الانتقام. حتى أن أبطال الأساطير أنفسهم باتوا يصارعون بعضهم بعضًا؛ فأين الخير في نفوسهم إذًا في هذه الحالة؟

قد نُجنب الخير بداخلنا أحيانًا عندما يتعارض الأمر مع مشاعرنا وطموحاتنا ومصالحنا الشخصية، لذا من الطبيعي أن نجد أبطال الأساطير يحاربون بعضهم البعض طمعًا في الملك أو حب الجماهير على سبيل المثال.

وفي لحظة ضعف، عاد جيكل وشرب تركيبته مرة ثانية، وأصبح من العسير سيطرته على الشر بداخله، وكان من المحتم أن يضع حدًا لحياته، لذا كانت نهايتهما معًا دكتور جيكل ومستر هايد

لم يعد الأبيض والأسود رمزين للخير والشر؛ فهناك منطقة رمادية بينهما تشير إلى احتمالية وجودهما مجتمعين في نفوسنا. وسيظل الصراع بينهما حتى النهاية؛ نهاية الحياة كلها، فأحيانًا يفوز الخير، وأحيانًا يفوز الشر، ولكن المهم أن نجعل الخير من يفوز بالنهاية.

المراجع

britannica.com
psychologytoday.com
psychologytoday.com


*هذا المقال نشر كجزء من مشاركة الكاتبة في ورشة الصحافة العلمية ومن خلال مشروع «العلم حكایة»، وهو أحد مشروعات معهد جوته الممولة من قبل وزارة الخارجية الألمانية.

**هذا المقال منشور في مجلة كوكب العلم، عدد صيف 2020.

***مصدر الصورة cover image credits: الرابط

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية