مع حلول الليل على الحي الهادئ، اخترق الصمت نباح كلب مضطرب قد غطت فراءه وأقدامه الدماء. قاد الكلب فريق التحقيق المختص بتحليل مواقع الجرائم إلى ممر مظلم تظلله الأشجار؛ حيث عثروا على جثة امرأة ملقاة أسفل بضعة سلالم وسط بحيرة من الدماء. التف جسد المرأة بمعطف ثقيل فلم تظهر عليها أية إصابات سوى طلقة رصاص واحدة برأسها انفجرت منها الدماء. وقد تبعثرت محتويات حقيبتها على السلالم، ولكن لم يكن بينها هاتف محمول أو حافظة نقود؛ في إشارة إلى أن ما أصاب المرأة كان جراء محاولة للسرقة. وعلى بُعد أقدام من الجثة سقطت ساعة يد لرَجُل مكسورة قد تعطلت عند الساعة 9,32. قام فريق التحقيق بإحاطة مسرح الجريمة ثم شرعوا في تحليل المكان بدقة متناهية؛ حيث قاموا بجمع وحفظ كل العينات والأدلة المحتملة.
هل تبدو هذه البداية مألوفة؟ قد يكون هذا المشهد هو المشهد الافتتاحي لإحدى حلقات مسلسل "القانون والعدالة" (Law & Order) أو "فريق تحقيقات مسرح الجريمة" (CSI) وهما من أشهر المسلسلات الأمريكية البوليسية، ولكنه قد يكون أيضًا مشهدًا من الواقع. وقد تربعت البرامج التليفزيونية التي تتناول موضوعات الجرائم وكيفية حلها من زوايا مختلفة على قمة قوائم المشاهدة في جميع أنحاء العالم بشكل مستمر على مَرِّ العقد المنصرم. فيبدو أن المشاهدين قد أسَرَتهم أدوات حل الجرائم التي في متناول مسئولي تنفيذ القانون وكذلك المهارات التي يمتلكونها.
وفي الواقع، فإن وسائل التحقيق في مسارح الجرائم قد تطورت كثيرًا منذ أيام شيرلوك هولمز وحتى وقتنا الحالي، وذلك بدخول علوم التشريع عالم التحقيقات. فاليوم، يمتلك المحققون مجموعة مذهلة من الكيماويات والأدوات التي يستخدمونها في الكشف عن أدق الأدلة التي لا يمكن لأي مجرم أن يأمل في الهروب من مسرح الجريمة بدون أن يخلفها وراءه.
وتُعَدُّ الكيمياء من أهم أسلحة التحقيق الخاصة بعلماء التشريع.
البصمات السحرية
أخرج فريق التحقيق معداته الكيميائية وبدأت تفوح الأبخرة الغازية الغامضة. وتحت ضوء مصباح الأشعة فوق البنفسجية بدأت تظهر كما السحر بصمات أصابع على ملابس الضحية وعلى السلالم؛ حيث أُلقِيَ جسدها فغطت هذه البصمات مسرح الجريمة.
لقد رأينا كلنا تلك الأبخرة السحرية في التليفزيون، ولكنها في الواقع حقيقة وليست خيالاً أو ضربًا من السحر بأي شكل من الأشكال. نعم، هي حقيقة؛ فهي نتاج المعامل الكيميائية؛ حيث يتم تكوين الكيماويات المختلفة التي تستخدم في الكشف عن بصمات الأصابع المستترة. وعلى مر النصف قرن الماضي، طرأت العديد من التطورات على وسائل تحليل البصمات والتعرف عليها، ويرجع الفضل في الكثير منها إلى التفاعلات الكيميائية.
ففي معامل تحليل الجرائم عادةً ما نجد أربعة أنواع من الكواشف الكيميائية التي تستخدم في الكشف عن البصمات الخفية أو المستترة، وهي: سيانوأكريليت ونترات الفضة والأيودين والنينهيدرين. وقد تَعرِف السيانوأكريليت باسمه التجاري: الصمغ المقوَّى (السوبر) (Super Glue)، والذي يمكن شراؤه من أي سوبر ماركت. وعندما يتم تسخين السيانوأكريليت أو مزجه بهيدروكسيد الصوديوم (NaOH)، فإنه يطلق أبخرة تتفاعل مع الأحماض الأمينية الموجودة في بقايا البصمة فتصبح بيضاء. وبعد التعرض للسيانوأكريليت، يمكن التقاط البصمة على فيلم كما هي أو معالجتها بخضب مشعٍّ يلتصق بالبصمة فتشع بدورها تحت مصدر ضوء ليزر أو فوق بنفسجي.
عند استخدام هذه الوسيلة يتم تعريض الشيء المشكوك في وجود بصمات مستترة عليه للأبخرة داخل جهاز يعرف بحجرة التبخير. وتكون النتيجة النهائية أن تتحجر البصمات التي تم تبخيرها كما يحدث للصمغ المقوى. وعوضًا عن إقامة حجرة تبخير في موقع الجريمة، يقوم فَنِّيُّو تحقيقات مسرح الجريمة باستخدام أداة تشبه العصا السحرية تقوم بتسخين عبوة صغيرة من السيانوأكريليت الممزوج بالخضب المشع فتنطلق الغازات بمقربة من البصمات المستترة فتسمح للفَنِّيِّين بتثبيت وصباغة البصمة في نفس الوقت.
في حين أنه عندما يقوم فَنِّيُّو تحقيقات مسرح الجريمة باستخدام نترات الفضة — وهي مركب كيميائي يتواجد في أفلام الأبيض والأسود الفوتوغرافية — على البصمات المستترة، فإن الكلوريد الموجود في بقايا البصمة يتفاعل مع نترات الفضة لتكوين مركب آخر هو كلوريد الفضة. ويقوم هذا المركب الجديد بالكشف عن بصمة سوداء أو بُنِّيَّة اللون تحت الضوء فوق البنفسجي.
أما المادة الكيميائية الثالثة التي تستخدم في الكشف عن البصمات المستترة فهي الأيودين. فعند تسخين الأيودين المتبلر يطلق الأبخرة داخل حجرة الأبخرة؛ حيث يتفاعل الأيودين مع الزيوت الموجودة في البصمة المستترة، الأمر الذي ينتج عنه بصمة بُنِّيَّة اللون. ولسوء الحظ، فإن هذا النوع من البصمات يميل إلى الزوال بسرعة. ولذلك فإنه يجب التقاط البصمة على فيلم مباشرةً أو تثبيتها عن طريق رشها بسائل مُثَبِّت مُكَوَّن من الماء والنشاء. ويعمل هذا السائل المُثَبت على بقاء البصمة لأسابيع أو حتى شهور.
والنوع الرابع من الكواشف الكيميائية التي تستخدم في الكشف عن البصمات المستترة هو النينهيدرين. وعند رش الشيء المشتبه في وجود بصمات عليه بسائل النينهيدرين قد يستلزم الأمر عدة ساعات لتظهر البصمات؛ وذلك لأن النينهيدرين يتفاعل ببطء مع الزيوت الموجودة في البصمة. ومع ذلك، فإن تسخين الأشياء يمكنه أن يقلل من زمن التفاعل وستكون البصمة الناتجة بلون أزرق أرجواني.
تمت مطابقة البصمات المُجَمَّعة مع تلك الخاصة بالضحية والأشخاص المهمة في القضية وكذلك المشتبه فيهم السابقين في جرائم السرقة المشابهة. إلا إن البصمات فقط لا تكفي لحل القضية؛ فهي مجرد خطوة في طريق التحقيق الطويل الذي يخوضه محقِّقو مسارح الجرائم.
أظهر نفسك أيها الدم الخفي
بعد حفظ البصمات، وضع فريق التحقيق نظارات الشمس وبدأوا برش مسرح الجريمة بسائل خاص؛ عندئذٍ شاع ضوء أزرق غريب أضاء ظلام الليل مُضْفِيًا عليه جوًّا من الغموض. من ثم بدأت تظهر رويدًا آثار أقدام تبدأ من مدخل العقار وتتجه نحو الجثة. في داخل المنزل، استمرت آثار الأقدام وصولاً إلى باب مؤدٍّ إلى إحدى الغرف، وقد بدت كغرفة مكتب أو ما شابه ذلك. وبدخول الغرفة، قام الفريق برش المزيد من السائل الخاص؛ عندها أضاءت السجادة المفروشة على أرض الغرفة بنفس الضوء الأزرق العجيب، وكذلك فعلت الألواح الخشبية أسفلها.
كل مَن هو مِن هواة المسلسلات البوليسية وبالأخص التشريعية قد شاهد في حلقة أو أخرى محقق مسرح الجريمة البطل وقد ارتدى نظارات الشمس الإلزامية وهو يظلم الإضاءة في حجرة ما ويرش مادة "سحرية" على السجادة لتظهر بصورة دراماتيكية آثار دماء الضحية المسكينة. وقد تسأل نفسك: كيف يقومون بذلك؟
إن المركب الكيميائي المحوري في هذه الدراما هو "اللومينول" (C8H7O3N3)، وهو مسحوق يتكون من النيتروجين والهيدروجين والأوكسجين والكربون. يقوم المحقق بمزج مسحوق اللومينول بسائل يتكون من بيروكسيد الهيدروجين وكيماويات أخرى، ثم يصب المحقق المزيج في زجاجة بخاخ بسيطة. إن بيروكسيد الهيدروجين واللومينول هما اللاعبان الرئيسيان في التفاعل الكيميائي، ولكن لإصدار ضوء قوي، يحتاجان إلى مُحَفِّز، والذي يكون في هذه الحالة الحديد الموجود في دم الضحية.
للقيام باختبار اللومينول، يقوم فريق تحقيق مسرح الجريمة برش المزيج أينما يشتبه في وجود آثار دماء. وإذا ما التقى الهيموجلوبين، وهو الحديد الموجود في الدم، بمزيج اللومينول، فإنه يُحَفِّز الحديد على التفاعل بين بيروكسيد الهيدروجين واللومينول، فيفقد اللومينول ذرَّات النيتروجين والهيدروجين بينما يكتسب ذرَّات الأوكسجين، الأمر الذي ينتج عنه مركب يُعرَف بأمينوفثاليت-3 يتركه التفاعل في حالة نشطة. وسريعًا ما تعود الإلكترونات المُنَشَّطة إلى مدارات الطاقة السفلى، الأمر الذي يتسبب في إنتاج الطاقة في صورة فوتونات ضوئية. وفي وجود الحديد كمُحَفِّز، يصبح الضوء ساطعًا بما فيه الكفاية للرؤية في غرفة مظلمة.
إذا ما أظهر اللومينول آثار دماء، يقوم المحققون بتصوير مسرح الجريمة لتدوين شكل الآثار ونمطها.
بقايا الطلق الناري الملتصقة بك
استخدم المحققون جهاز شفط مفلتر لتجميع الأدلة من السجادة في غرفة المكتب وكذلك من ملابس الضحية وحقيبتها. كما تم التحفظ على بعض الأغراض الأخرى، بما في ذلك ساعة اليد التي وجدت في مكان الجريمة، واختبارها جميعًا بحثًا عن أية آثار لطلق ناري عليها.
كثيرًا ما نسمع عن العثور على آثار بقايا الطلق الناري على يَدَي القاتل وهو الأمر الذي يكشفه. ولكن، كيف يتم التحقق من ذلك؟
الإجابة ببساطة هي: الكيمياء. فعندما يحدث طلق ناري، تنطلق مجموعة من الأبخرة والمواد الجسيمية في المنطقة المحيطة بالسلاح الناري. ويمكن تسمية مجموع تلك المنتجات الناجمة عن الطلق الناري بقايا الطلق الناري، وتستخدم في تقدير مسافات إطلاق النار، والتعرف على الثقوب الناتجة عن الطلقات، والأهم من ذلك، أنها تستخدم في الكشف عن ما إذا كان شخص ما قد أطلق النار أم لا. وقد تستقر بقايا الطلق الناري على الأيدي أو الأكمام أو الوجه أو أي جزء آخر من الجاني، وكذلك أي شيء أو شخص في نطاق سقوط بقايا الطلق الناري.
ويتم الكشف عن تلك البقايا بعدة تقنيات، فتستخدم كأدلة قوية. ويعتبر الاختبار المعملي لبقايا الطلق الناري تحت مجهر المسح الإلكتروني هو الوسيلة الأكثر فعالية ومصداقية. ويتم استخدام الشرائط اللاصقة لالتقاط البقايا من على الشخص أو الشيء ثم توضع تحت المجهر الذي يستخدمه الفَنِّيُّ في تحديد جزيئات البقايا وتعريف تركيباتها تحديدًا.
ومن الوسائل الأخرى للكشف عن بقايا الطلق الناري التحليلات الكيميائية، والتي تكشف المنتجات الفرعية لحرق البارود. وهذه المنتجات الفرعية تشمل المعادن مثل: الرصاص والأنتيموني والباريوم. ويحصل محققو مسرح الجريمة على بقايا الطلق الناري بمسح يَدَي الشخص وذراعيه وملابسه بورق فلتر أو القطن المخصوص، ثم تتم معالجة العينة بسائل الديفينيلامين، وهي مادة كيماوية تتفاعل مع تلك المعادن لِتُحْدِثَ تغيُّرًا في اللون، ويكون الاختبار إيجابيًّا إذا ما كان اللون الناتج هو الأزرق.
أثبتت الاختبارات وجود بقايا طلق ناري على ساعة اليد التي اعتقد المحققون ملكيتها لزوج الضحية، فتم إصدار أمر للقبض عليه في الحال. وعند القبض على الزوج المشتبه فيه، قام المحققون بمسح يَدَيْه ووجهه وملابسه بحثًا عن الأدلة.
وتحل الكيمياء القضية
لقد دلت الاختبارات العلمية المحققين ليتأكدوا أن الزوج قد أطلق النار بالفعل، وبالرغم من أن الملابس التي كان يرتديها عند القبض عليه لم تحتَِو على أيَّة آثار دم، فإنها وُجِدت بالفعل على حذائه. كما أن آثار حذائه قد تطابقت مع تلك التي عثر عليها فريق التحقيق في مسرح الجريمة، وبالرغم من أنه قد أنكر ملكيته لساعة اليد المكسورة فإن بصمات أصابع يديه قد وجدت على سوارها. وفي مواجهة الأدلة الدامغة ضده، اعترف الزوج بقتل زوجته مُدَّعيًا أنها قد رفضت مساعدته في ضائقته المادية بالرغم من ثرائها. وعندما بدأ شبح الإفلاس والسجن في ملاحقته، ومع استمرار زوجته في الامتناع عن قرضه ما يلزمه من المال، توهَّم أن مخرجه الوحيد هو قتلها ليرثها وقد ظن أن بإمكانه الفرار بتصوير الجريمة كعملية سرقة تمت خارج المنزل؛ بينما في الواقع أنه قد دعاها إلى مكتبه ليقتلها. ما زاد الطين بلة هو فقدانه لساعته في مسرح الجريمة، إلا إنه في جميع الأحوال لم يكن له من مفر، خاصة مع وجود سلاح محققي مسرح الجريمة: الكيمياء.
المراجع
دافيد إي. نيوتن، 2007. الكيمياء الحديثة، الكيمياء التشريعية.
واين بينيت، كارن م. هس، كريستين م. أورثمان، 2006. التحقيقات الجنائية، الطبعة الثامنة.
www.buzzle.com
science.howstuffworks.com