المقالات

أبشع الأوبئة على مر التاريخ

شارك

هل تساءلت يومًا ما الذي حصد أكبر عدد من الضحايا البشرية على مر التاريخ؟ هل الكوارث الطبيعية؟ أو المجاعات؟ أو الحروب؟ حسنًا، على الرغم من بشاعة كل تلك الأحداث، فإن الأمر عندما يتعلق بالعدو الأول للبشرية يجب علينا التركيز في شيء غير مرئي بالعين المجردة؛ وهو: مسببات الأمراض أو الميكروبات التي تحمل الأمراض المعدية. فعلى مر آلاف الأعوام منذ بدء الخليقة، قتلت الأوبئة البشر العزل، مخلفة وراءها ملايين المنتحبين.

في عام 430 قبل الميلاد، تحدت إمبراطورية أثينا منافستها إسبارطة لفرض السيطرة على هيلاس. إلا أن الخطط الحربية التي وضعها الاستراتيجي الأثيني بريكليس فشلت فشلًا ذريعًا؛ إذ دمر جيش إسبارطة أتيكا وحاصر أثينا نفسها. وبالرغم من ذلك، لم يكن العدو الأخطر خارج أسوار المدينة، بل داخلها؛ حيث كمنت آفة مرعبة؛ ويحكي لنا المؤرخ ثيوسيديدز ما حدث.

ويؤكد الهجوم الضاري للمرض اكتشاف المدافن الجماعية التي يبدو أنها قد حفرت على عجالة، والتي تعود إلى الزمن نفسه؛ ولكن لم يمكنَّا تقرير ثيوسيديدز ولا رفات الموتى من معرفة ماهية القاتل الحيوي المرعب. فيفترض الباحثون أن الوباء ربما كان الجدري، أو التيفوئيد أو حمى التيفود، أو الطاعون، أو الحمى النزفية الأقرب إلى مرض الإيبولا حاليًّا. ما نعرفه هو أن نحو مائة ألف شخص قد لقوا حتفهم، أي أكثر من ثلث الأثينيين؛ وهو رقم مفزع يفوق بكثير الوفيات التي تسبب فيها الصراع الحربي. فعلى مر القرون تقتل البكتيريا والفيروسات والآفات الأخرى أكثر بكثير من أي سلاح.

في الأمريكتين المكتشفتين حديثًا تعرض السكان الأصليون فجأة لميكروبات جاء بها الأوروبيون. ولم يكن الجهاز المناعي لهؤلاء السكان قد تعرض قبل ذلك لمثل تلك الميكروبات؛ فلم يكن مستعدًّا على الإطلاق لمحاربة الأمراض التي تسببت فيها. وهكذا قضت الإنفلونزا، والحصبة، والجدري، والتيفوئيد، والكوليرا، على الهنود الحمر؛ وهو القدر الذي تجلى في شعب تاينو الذي عاش في الكاريبي. ففي غضون ستة أعوام انخفض عددهم لأقل من خمسمائة ناجٍ.

وعلى الرغم من أن الأوروبيين قد أطلقوا العِنان للعنف الطاغي، فإن ذلك الاندثار السريع يرجع بشكل أساسي إلى الأمراض الوافدة، وبالأخص الجدري؛ وهو العامل المعدي الذي سمح لحفنة من الإسبانيين أن يفرضوا سيطرتهم على إمبراطورية الأزتيك القوية والمنظمة تنظيمًا جيدًا. وبالرغم من ذلك، فعندما يتعلق الأمر بالميكروبات، فغالبًا ما لا يكون الأمر في اتجاه واحد. فمثلما أتى الغازون بالأمراض غير المعروفة سابقًا إلى الأمريكتين، تقترح الدراسات أنهم قد عادوا إلى أوروبا بمرض الزهري، والذي تفشى بشكل ضارٍ في القارة القديمة. تفشى أول الأوبئة الكبرى في نابولي في عام 1495م، بعد ثلاثة أعوام فقط من اكتشاف العالم الجديد، ومن ثم انتشر سريعًا في جميع أنحاء أوروبا؛ حيث أزهق – حسب بعض الباحثين – نحو خمسة ملايين روح خلال الأعوام القليلة التالية.

ولم تتغير الأمور كثيرًا على مر القرون، فبعد 2348 عامًا من وباء أثينا، تواجهت القوى الأوروبية الكبرى في أكثر الصراعات دموية حتى ذلك الحين. كانت تلك الحرب العالمية الأولى، حين تسلحت الجيوش بالبنادق، والمسدسات الآلية، وكذلك الطائرات. وكان بحوزة الجيش الإمبريالي الألماني سلاح جديد للقذف بعيد المدى استخدم في حصار باريس، مُطلِقًا الذخيرة على العاصمة من بُعْد 130 كم؛ إلا أن هذا لا يقارن بالأذى الذي يمكن للميكروبات المعدية التسبب فيه.

وبعد أربعة أعوام من الصراع، وبينما الجيوش في محطتها الأخيرة، اندلع الوباء الأكثر فتكًا في التاريخ، وهو وباء الإنفلونزا الإسبانية، الذي تسببت فيه الظروف غير الصحية المحيطة. وقد حصد ما يتراوح من 50 إلى 100 مليون روح حول العالم، بين عامي 1918م و1919م. وخلال القرن العشرين، وقبل أن يُقضى عليه تمامًا في عام 1980م، قضى الجدري على ما يتراوح من 300 إلى 500 مليون ضحية؛ وهو أكثر من ثلاثة أضعاف ضحايا الصراعات الدموية على مدار ذلك القرن.

 

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية