لعشرات الملايين من السنين، ظلت مستويات الحموضة بمحيطات الأرض مستقرةً نسبيًّا. في هذه البيئة المستقرة ازدهرت الشبكة الحياتية الغنية والمتنوعة الموجودة في البحار هذه الأيام. إلا أن الأبحاث أظهرت أن هذا التوازن الذي استمر منذ القدم يختل بفعل ارتفاع حديث العهد وسريع في حموضة السطح، الأمر الذي قد يكون له عواقب عالمية وخيمة.
فمنذ بدأت الثورة الصناعية في بدايات القرن التاسع عشر، أحدثت الماكينات التي تعمل بالوقود الأحفوري طفرةً غير مسبوقةٍ في الصناعة والتقدم الإنسانيّ. إلا أن العواقب الوخيمة لهذه الطفرة هي انبعاث مليارات الأطنان من غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) وغيره من غازات الصوبة الزجاجية إلى الغلاف الجويّ للأرض.
ولقد امتصت المحيطات عبر الوقت نحو نصف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي تسبب بها الإنسان، الأمر الذي أبطأ من وتيرة تغير المناخ. إلا أن استحداث هذه الكميات الهائلة من ثاني أكسيد الكربون في مياه البحار قد غيَّر من الطبيعية الكيميائية للمياه وأَثَّر على الدورات الحياتية للعديد من الكائنات البحرية، خاصة تلك الموجودة في نهاية السلسلة الغذائية.
فعندما يذوب ثاني أكسيد الكربون في مياه المحيطات يتكون حمض الكربونيك، مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى الحموضة بالقرب من السطح تحديدًا، ولقد ثبت وقع ذلك على الحد من نمو محار الكائنات البحرية، كما يُعتقد أنه سبب في الاختلالات التكاثرية لبعض الأسماك.
وعلى مقياس نسبة الحموضة الذي يتراوح من 0 إلى 14، تكون المحاليل التي تظهر نسبة منخفضة محاليلاً حمضية، وتكون تلك التي تظهر نسبة مرتفعة محاليلاً قلوية، بينما تكون تلك التي تشير إلى النسبة 7 محاليلاً متعادلة. ولقد ظلت نسبة المحيطات قلوية قليلاً حول 8.2 درجة عبر الثلاثمائة مليون سنة الماضية، أما الآن فقد صارت حوالي 8.1 درجة؛ حيث يمثل النقص الذي يبلغ 0.1 درجة نسبة 25% ارتفاعًا في معدل الحموضة خلال القرنين الماضيين.
تمتص المحيطات حاليًّا ثلث انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يتسبب بها الإنسان تقريبًا، أي ما يعادل 22 مليون طن يوميًّا. وتشير التصورات القائمة على هذه الأرقام أنه بنهاية القرن الحالي يمكن أن تعمل الانبعاثات المستمرة على ارتفاع درجة حموضة المحيطات بمعدل 0.5 درجة. وقد يؤثر ذلك بشدة على الكائنات المكوّنة للأصداف بما في ذلك المرجان، والمحار، والجمبري، وسرطان البحر، والعديد من العوالق، بل وبعض أنواع الأسماك أيضًا.
إن الإدراك العلمي لزيادة نسبة الحموضة بالمحيطات حديث العهد إلى حدٍّ ما؛ فلم يزل الباحثون في بداية دراساتهم لتأثيرات ذلك على النظم الإيكولوجية البحرية. إلا أن جميع العلامات تشير إلى أنه ما لم يستطع الإنسان السيطرة على الانبعاثات الناجمة عن استخدام الوقود الأحفوري ومن ثم الحد منها؛ فستجد الكائنات البحرية أنفسها تحت ضغطٍ متزايد إما لتتكيف مع الكيمياء المتغيرة لموطنها، وإما لتفنى.
ومن المتوقع أن يتسبب التركيب الكيميائي الجديد لمحيطاتنا في الإضرار بنطاق عريض من الحياة بها، وتحديدًا الكائنات ذات الأصداف؛ حيث تعمل الحموضة المتزايدة على تخفيض نسبة الكربونات، وهي المواد المستخدمة في تكوين الأصداف والهياكل للكثير من أنواع المحار والمرجان. ويعد ذلك التأثير مماثلاً لهشاشة العظام؛ حيث يُبطئ من نمو الأصداف ويجعلها أكثر هشاشة. وإذا انخفضت المعدلات على مقياس الحموضة بالقدر الكافي. فستذوب هذه الأصداف فعليًّا؛ وقد يكون لذلك الإخلال تأثيرات ممتدة، وقد يستنزف مزيدًا من الأسماك التي تعاني بالفعل عبر العالم.
كما قد تواجه الشُّعب المرجانية الرقيقة مخاطر أكثر جسامة من المحار؛ لأنها تتطلب مستويات مرتفعة من الكربونات لبناء هياكلها. فالحموضة تعمل على إبطاء بناء الشُّعب، الأمر الذي من شأنه الحد من درجة تكيف أنواع المرجان، وقد يؤدي إلى تآكلها ومن ثم انقراضها. وقد تحل نقطة "اللا عودة" للشُّعب المرجانية بحلول عام 2050م.
وتعمل الشُّعب المرجانية بمثابة موطن للعديد من أشكال الحياة الأخرى في المحيطات؛ والتي سيماثل اختفاؤها القضاء على الغابات المطيرة عبر العالم. فستلقي هذه الخسائر بظلالها عبر البيئة البحرية وسيكون لها تأثيرات اجتماعية عميقة، وبالتحديد على صناعتي الصيد والسياحة. كما ستحد خسائر الشُّعب المرجانية من الحماية التي توفرها للمجتمعات البحرية من العواصف العارمة والأعاصير، والتي ستكون أكثر قسوة بارتفاع درجة حرارة الهواء وسطح البحر بفعل الاحترار العالمي.
Creator: Australian Institute of Marine Science | Credit: LTMP
Copyright: Australian Institute of Marine Science
تتطلب مواجهة التحمُّض الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتحسين صحة المحيطات. وسيعمل خلق مساحات بحرية محمية ومنع ممارسات الصيد المُخربة على زيادة مرونة النظم البيئية البحرية ومساعدتها على الصمود أمام التحمّض. فتشير الدلائل إلى أن الشُّعب المرجانية الموجودة في المحميات البحرية أقل تأثُّرًا بالتهديدات العالمية مثل الاحترار العالمي وتحمُّض المحيطات مما يبرهن على فعالية حماية النظم البيئية.
وبشكل أساسي، يظل الحد من كمية ثاني أكسيد الكربون التي تمتصها المحيطات الطريق الوحيد لوقف التحمّض. فيمكن أن تسهم الاستراتيجيات المطلوبة لمكافحة الاحترار العالمي في حل مشكلة البحار. ويجب التأكيد على أن هذه المشكلة مشكلة عالمية؛ فعلى الرغم من أن المنطقة العربية لا تطل على أية محيطات فإن المشكلة ستؤثر على البحر المتوسط.
فيُعد البحر المتوسط محيطًا صغير النطاق ذا تنوع بيئي كبير وتدرجات فيزيوكيميائية حادة داخل منطقة محدودة نسبيًّا. فتتسم دورته بتدرجات نطاقية للمتغيرات الفيزيوكيمياية؛ حيث تزيد كلٌّ من درجة الملوحة، ودرجة الحرارة، والطبقات، ودرجة القلوية كلما اتجهنا شرقًا. وتختلف المياه قليلة المغذيات البعيدة عن الشاطئ (من قليلة المغذيات(1) إلى شحيحة المغذيات(2)) عن العديد من المناطق القريبة من الشاطئ، والتي عادة ما تحتوي على أنظمة إيكولوجية من الشعب المرجانية والعشب البحري، والتي تتأثر بدورها بتلوث المغذيات(3) الذي يتسبب به الإنسان.
فبالرغم من أن البحر المتوسط يمثل 1% فقط من المساحات المحيطية للعالم، فإنه يحوي 8% من التنوع الحيوي العالمي الذي يتعرض للتهديد حاليًّا. ويعد التحمّض من الضغوطات التي يتسبب بها الإنسان على النظم الإيكولوجية بالبحر المتوسط، والتي تعاني بالفعل من مشكلات أخرى مثل الصيد الجائر، وارتفاع درجة حرارة سطح البحر، وغزو الأنواع الغريبة نطاقاتها.
ويعد عمل المزيد من المناطق البحرية المحمية حلاًّ جيدًا قصير الأمد؛ للحد من التأثيرات الجانبية الضارة - لكلٍّ من الصيد، والملاحة، والسياحة - على المناطق التي تمثل موطنًا هامًّا للكثير من الأنواع الحية. إلا أن البحر المتوسط بيئة واهنة بالفعل؛ نظرًا لكونه بحرًا شبه منغلق؛ فلا يعلم أحد كيف سيواجه ذلك البحر تلك التحديات البيئية الكبرى في ظل التعقيدات الاجتماعية السياسية التي تحيط بسواحله. وللعلماء أن يقولوا ما يشاءون ولكن يظل الفعل في أيدي صانعي السياسات، والحكومات، والجماهير.
إننا نؤذي كوكبنا بطرق عديدة نعيها جميعها جيدًا، ولكن عندما يتعلق الأمر بالحياة البحرية فنحن - عامة الناس - نغفل تمامًا عن الكنوز الهامة الكامنة التي تدمرها أفعالنا غير الواعية. والحقيقة المحتومة هي أن تحمُّض المحيطات هو الوجه الخفي لأزمة انبعاثات الكربون العالمية التي تسببنا بها وجعلناها مزمنة. ومن ثم، يتعين علينا عمل تغييرات جذرية فيما يتعلق بتزويد عالمنا بالوقود، على أن يتم ذلك بسرعة.
المصطلحات
- قليلة المغذيات: مصطلح يستخدم لوصف البيئات التي توفر القليل من العوامل اللازمة لاستدامة الحياة داخلها، أو الكائنات التي تعيش بها، أو المكيفات التي تدعم البقاء بها.
- شحيحة المغذيات: مصطلح يستخدم لوصف البيئات التي تنخفض تركيزات المغذيات بها للغاية في كلٍّ من عمود المياه والترسبات.
- التلوث بالمغذيات: هو استجابة النظم البيئية لإضافات المواد الاصطناعية أو الطبيعية مثل النترات أو الفوسفات من خلال صرف الأسمدة أو مياه الصرف إلى النظم البحرية.
*المقال منشور في نشرة مركز القبة السماوية العلمي، عدد صيف 2012.
المراجع
nrdc.org
ocean.nationalgeographic.com
medsea-project.eu
cen.acs.org
scimex.org (image)