في يناير 2020، أصدرت شركة نتفليكس مسلسلًا وثائقيًّا بعنوان «الجائحة: كيف نمنع تفشي المرض»، بالتزامن مع تفشي فيروس كوفيد-19. فبدأت أشاهد المسلسل ظنًّا مني أنه يدور حول هذه الجائحة. ولكن اتضح لي أنه صُور وأُنتج قبل تفشي فيروس كورونا؛ ومن المفارقات في هذا المسلسل، أن العلماء يحذروننا من الأوبئة ويشرحون ما يفعلونه يوميًّا لمنعها!
يتحدث مسلسل «الجائحة» عن فيروسات الإنفلونزا بجميع سلالاتها، مثل إنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور؛ فيعرض المسلسل كيف يعالج الأطباء مرضى الإنفلونزا، كما يعرض الإجراءات الوقائية التي يتخذها العلماء لمنع تفشي الأمراض. تشمل هذه الإجراءات تطعيم الطيور، وتتبع الطيور المهاجرة، وإجراء الفحوصات لها إذا لزم الأمر. وإجراء الفحوصات للحيوانات أمر مهم، لأن بعض الفيروسات حيوانية المصدر، أي أنها تنتقل من الحيوانات إلى البشر.
يُعد تجنب تفشي المرض أمرًا بالغ الأهمية؛ ولكن فور حدوثه، يصبح من الضروري أيضًا ألا يتعرض عديد من الناس له. يناقش المسلسل تفشي فيروس إيبولا ومجهودات منظمة الصحة العالمية لاحتواء هذا الفيروس المميت، بما في ذلك إغلاق منطقة تفشي المرض لمنع انتشاره إلى المناطق المجاورة؛ لأن شخصًا واحدًا كافٍ لإشعال أزمة.
السلامة أولًا
يُعد التطعيم من أهم الإجراءات الوقائية لحماية الناس من الأمراض. ومع ذلك، وحتى يومنا هذا، فلا تزال عملية صنع لقاحات لبعض الأمراض تمثل تحديًا؛ لذلك، ظلت الإنفلونزا معنا لفترة طويلة ولا تزال تقتل عديدًا من الناس كل عام.
يسلط المسلسل الضوء على جهود العلماء في مجموعة Distributed Bio، وهي مجموعة من الباحثين المكلفين بمهمة اختراع ما يسمونه «اللقاح العالمي»، وتمولهم مؤسسة جيتس؛ حتى يتمكنوا من اكتشاف اللقاح وتوفيره مجانًا. حتى الآن، اختبروا ما توصلوا إليه على الخنازير وكانت النتائج مرضية؛ ولكن، ما زالوا يحتاجون إلى سنوات عديدة من البحث والاختبار.
من خلال مشاهدة المسلسل، والذي أُنتج قبل تفشي جائحة فيروس كورونا وأُصدر بعد شهر من ظهورها، تدرك أنه على الرغم من أن تفشي المرض فاجأ الجميع، فلم يكن كذلك بالنسبة إلى العلماء. فلطالما مثّل هذا السيناريو خوفًا وواقعًا للتعامل معه؛ وقد جاء المسلسل بمنزلة تحذير، ولكنه جاء متأخرًا.
إشارات فائتة
إذا كنت تعتقد أن هذا المسلسل هو التحذير الوحيد من تفشي الأمراض، فأنت مخطئ تمامًا. ففي كلمته الشهيرة في TED Talks عام 2015، حذر بيل جيتس من أن أكبر تهديد للبشرية هو شيء لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، وليس حربًا ذرية؛ لأن المرض قادر على حصد أرواح أكثر بكثير من الحروب.
إذا كنت لا تصدق هذا، فتيقن من عدد من لقوا حتفهم خلال الحرب العالمية الأولى مقارنة بعدد ضحايا الإنفلونزا الإسبانية التي تفشت بعد تلك الحرب مباشرة. ذكر بيل جيتس في كلمته أنه من حسن الحظ أن الإيبولا لم تنتشر، ويرجع ذلك؛ لأنه في الوقت الذي أصبح فيه الناس معديين بشكل كبير، لم يكن في مقدورهم النهوض من الفراش؛ مما حد من قدرتهم على التجول ونقل العدوى إلى الآخرين. وأضاف أننا قد لا نكون محظوظين مع الأمراض الأخرى؛ إذ يمكن للمصابين أن يصبحوا معديين دون الشعور بأي أعراض، فيمارسون حياتهم الطبيعية، ومن ثم ينشرون المرض دون قصد. فأعطى مثالًا على كلامه بالمطارات – هل يبدو الأمر مألوفًا؟
لم تكن كلمة بيل جيتس التحذير الوحيد الذي صدر منذ فترة؛ ففي عام 2011، حذر الفيلم الذي يحمل عنوان «العدوى» من كابوس مشابه لما نعيشه الآن، حيث ينشر مسافر فيروسًا مميتًا بدون قصد في كل مكان. لذا، يصبح كل شخص تلتقيه أكبر عدو لك، ويشكل كل سطح تلمسه تهديدًا لصحتك. لا عجب أن هذا الفيلم اشتهر جدًّا في الوقت الحالي.
هل وصلنا؟
يعد ظهور أمراض مثل سارس، وإيبولا، وزيكا خلال السنوات الأخيرة تحذيرًا مسبقًا للعالم. ومع ذلك، وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي، فقد علَّم فيروس كورونا البشرية درسًا مهمًّا؛ فمثلما قال بيل جيتس: «نحن لسنا مستعدين لتفشي المرض التالي».
إنه القرن الحادي والعشرون، وقد اعتقدنا جميعًا أن مكافحة الأمراض التي قد تعطل حياتنا، والتي قد تصبح تحديًا أمام الأنظمة الصحية، أمر من الماضي. فلم يتخيل أحد أننا سنشهد أمورًا مرعبة مشابهة لتلك التي شهدتها الأجيال السابقة مع الكوليرا والإنفلونزا الإسبانية. لقد أثبت لنا فيروس كورونا أننا لسنا مستعدين؛ إذ توجد دروس عدة نحتاج أن نتعلمها، وأن ننقلها إلى الأجيال القادمة؛ لضمان احتواء الأوبئة بكفاءة في المستقبل بأقل خسائر ممكنة.
الطريق أمامنا
تتجاوز صحة الإنسان الرعاية الصحية والتفكير فيما يمكننا القيام به لتحسين المستشفيات وضمان تدريب الأطباء جيدًا على مكافحة الأمراض. وكل ذلك ضروري وحيوي، إلا أنه لا يكفي لتفادي حدوث جائحة. فنحن بحاجة إلى أن نكون أكثر حذرًا؛ وكما هو موضح في مسلسل «الجائحة»، توجد أهمية كبيرة لإجراء الفحوصات على الحيوانات. ونحن بحاجة إلى التيقن من أن الحيوانات المريضة لا تحتك بالبشر؛ فيشمل ذلك مراقبة التجارة غير المشروعة في الحيوانات، وهي ما كان سببًا وراء انتشار فيروس كورونا المستجد. كذلك يجب تطعيم الحيوانات والطيور بانتظام؛ فبهذه الطريقة نحمي أنفسنا من الأمراض حيوانية المصدر.
ولمحاربة الأوبئة، علينا أن نفهمها، وهذا الأمر غير ممكن بدون أبحاث: ما الذي يثير ظهور بعض الأوبئة؟ وكيف تبدأ؟ وكيف تؤثر في الناس؟ وقد تؤدي دراسة الأوبئة التي ظهرت في الماضي إلى فهم أفضل للمستقبل. الآن، تخضع أدوية عديدة للاختبار لمعرفة ما إذا كان بإمكانها علاج المصابين بفيروس كورونا. وكذلك يخضع لقاح البي سي جي المستخدم للوقاية من مرض السل للاختبار؛ لوجود بعض المزاعم أن الأشخاص المطعمين به أقل عرضة للإصابة بفيروس كورونا المستجد. ولا تزال دراسة لقاح البي سي جي قائمة، وحتى الآن لم تؤكد المزاعم حول فاعليته مع فيروس كورونا، كما لم تُدحض أيضًا.
على مر التاريخ، كان التطعيم عنصرًا مهمًّا في الحفاظ على صحة الإنسان. فبفضل اللقاحات، قُضي على مرض الجدري تمامًا، بالإضافة إلى شلل الأطفال الذي لم يعد موجودًا تقريبًا. والتطعيمات هي الطريقة الوحيدة التي تضمن عدم وجود أمراض الماضي في الحاضر أو المستقبل. الآن، يبدو أن لقاح فيروس كورونا هو أملنا الوحيد في العودة إلى حياتنا الطبيعية.
ولكن، عملية صنع اللقاحات تستغرق وقتًا طويلًا، وقد يؤدي التحدي المتمثل في صنع اللقاح في أسرع وقت إلى تسريع العملية في المستقبل. هل ستختلف عملية صنع اللقاحات في المستقبل؟ ربما سيأتي الوقت الذي سيتمكن فيه العلماء من صنع لقاحات للوقاية من أمراض لمـّا نعرفها بعد. فعندما يتعلق الأمر بالعلم، لا توجد حدود لأي شيء. تعمل اللقاحات على تحسين حياتنا؛ فلطالما فعلت ذلك، ولا يوجد شك في استمرارها في ذلك في المستقبل.
مهما فعلنا، فإن الحقيقة التاريخية أن الأوبئة تجد طريقها إلينا. لذا، إذا بذلنا قصارى جهدنا لمنع وباء ما وفشلنا، يجب أن نكون على دراية بكيفية الاستجابة والكشف عنه. يُعد تدريب الأطباء وطاقم التمريض وجميع من يعمل في نظام الرعاية الصحية على اكتشاف الحالات المشتبه بها، وكيفية التعامل معها في المستشفيات، أمرًا في غاية الأهمية. وينطبق الشيء نفسه على كيفية تتبع الحالات وتعرفها بشكل صحيح؛ وذلك للحد من انتشار الوباء.
في وقت الإنفلونزا الإسبانية، لم يكن لدى البشر طريقة لمعرفة تأثير الوباء في العالم كله؛ ولكن لدينا الآن هذه المعلومات، وتوثيق التجربة برمتها في الوقت الحالي أمر مهم. فهي الطريقة التي سنعرف بها الأخطاء التي ارتكبناها وما الذي بوسعنا فعله بشكل أفضل لتجنب الأوبئة.
مسلسل «الجائحة» أظهر لنا أن عدة علماء قد حذرونا من الأوبئة، ولكن تحذيراتهم لم يُعمل بها؛ فهل ستساعدنا الدروس التي تعلمناها من جائحة فيروس كورونا على تجنب الجائحة التالية؟ الوقت وحده هو الكفيل بإثبات ذلك.
المراجع
distributedbio.com
edition.cnn.com
imdb.com
ted.com
who.int