ظلت الاضطرابات النفسية على مرِّ السنين محاطة بشبكة من المفاهيم الخاطئة والأساطير. فقد قُدمت في أشكال متطرفة؛ شخص مجنون تمامًا، أو مختل عقليًّا يقتل الناس بدم بارد ولا يشعر بالذنب أبدًا، أو معزول ومكتئب بشدة ولا يتواصل مع أحد، بل يخشى الضوء والصوت. وهذه الأمثلة تُظهر نماذج متطرفة من الاضطرابات النفسية، غالبًا ما تتسم بالمبالغة، ولكن الغالبية العظمى من الحالات بعيدة كل البعد عن تلك التصورات.
لقد غرس هذا المفهوم في كثير من الناس خوفًا من التعرض للتمييز والوصم إذا ما شُخصوا طبيًّا بأحد الاضطرابات النفسية؛ ما يدفع بعضهم إلى إخفاء أعراضهم عن الآخرين وعدم التحدث عن حالتهم مع أي شخص وعدم زيارة الطبيب. ويؤدي هذا إلى تفاقم الحالة والوصول إلى نتائج أكثر خطورة؛ لأن هذه الأعراض لن تختفي بسهولة من تلقاء نفسها؛ إذ تحتاج إلى علاج حقيقي.
ما الاضطراب النفسي؟
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية WHO، تشمل الاضطرابات النفسية: الاكتئاب، والاضطراب الوجداني ثنائي القُطب، والفصام والاختلالات العقلية الأخرى، والخرف، واضطرابات النمو، بما في ذلك التوحد. تتسم هذه الاضطرابات بمجموعة من الأفكار والتصورات والعواطف والسلوكيات الشاذة والعلاقات غير الطبيعية مع الآخرين. وإذا لم تعامل جيدًا أو أُهملت، يمكن أن تُلقِي بظلالها على الأنشطة اليومية، مثل العمل والدراسة والتواصل مع الآخرين.
والاضطرابات النفسية لا تقتصر على «الجنون» التام أو الاكتئاب الشديد. فإذا أمعنا النظر في الأوهام المحيطة بمشكلات الصحة النفسية، نجد فيما يلي ستًّا من أشهر الأساطير عنها وعن حقائقها:
1– الاضطرابات النفسية استثنائية
يقدر عدد المصابين في جميع أنحاء العالم وفق منظمة الصحة العالمية بالاكتئاب بنحو 264 مليون شخص، والاضطراب الوجداني الثنائي القُطب بنحو 45 مليون شخص، والفصام والاختلالات العقلية الأخرى بنحو 20 مليون شخص، والخرف بنحو 35 مليون شخص؛ ما يعني أنها ليست حالات نادرة بأي حال من الأحوال.
2– المصابون بالاضطرابات النفسية ليسوا منتجين
رغم تأثير الاضطرابات النفسية في زيادة إنتاج الشخص وقدرته على العمل تحت الضغط، فإن هذا لا يعني أنه غير قادر على العمل أو الإنتاج بطريقة ما. فهذا يعتمد على عديد من العوامل؛ منها خطورة الحالة والدعم الذي يتلقاه الفرد من بيئة العمل.
3– مشكلات الاضطرابات النفسية من سمات ضعف الشخصية
في الواقع، لا علاقة بين الصحة النفسية وشخصية الفرد؛ إذ تسهم فيها عوامل عديدة، مثل الجينات الوراثية والبيئة وتجارب الحياة. ولذلك يجب التأكيد أيضًا أن من يكافح للتغلب على أحد الاضطرابات النفسية ويحاول التكيف مع متطلبات دراسته أو عمله، عليه أن يتحلى بالقوة والتصميم الكافيين لنجاحه، وكلها عناصر الشخصية القوية.
4– مشكلات الاضطرابات النفسية تدوم إلى الأبد
أصابع اليد الواحدة ليست متشابهة، وبالمثل تختلف مشكلات الاضطرابات النفسية في الأعراض والأسباب وفترة الشفاء منها. توجد علاجات حقيقية لعديد من هذه الاضطرابات النفسية، وكذلك طرق للتخفيف من آثارها ومن المعاناة التي تسببها؛ وذلك وفق منظمة الصحة العالمية.
5– المرض النفسي يصيب البالغين فقط
الحقيقة أن عديدًا من الاضطرابات النفسية ترجع إلى فترتي الطفولة والمراهقة. فتؤثر في طريقة التعلم، وقد تصبح تحديًا حقًّا إذا لم تُعامَل بالعلاج المناسب أو بتقديم الرعاية المطلوبة. والأمر الشائك هنا أن البالغين أقدر على معرفة ما يشعرون به حقًّا والتحدث عنه وتحديد المشكلة، في حين لا يقدر الأطفال على ذلك أو التعبير عما يمرون به.
6– اضطرابات الأكل ترتبط بنمط الحياة وتؤثر فقط في الإناث
تُعد اضطرابات الأكل، مثل الشره المرضي وفقدان الشهية والإفراط في تناول الطعام، من المشكلات الخطيرة التي تسببها عوامل كثيرة؛ منها عوامل بيولوجية وبيئية واجتماعية. وتلك الاضطرابات يجب أن تخضع إلى علاج حقيقي، وأحيانًا إلى علاج نفسي أيضًا؛ ما يعني أنها ليست أمرًا اختياريًّا.
وعلى عكس الاعتقاد الخاطئ الشائع، تظهر الدراسات أن الرجال يعانون هذه الاضطرابات أيضًا. فوفق بحث أُجري لدراسة انتشار اضطرابات الأكل بين الرجال في المملكة المتحدة، اتضح أنهم يمثلون نسبة 10–25٪ من حالات اضطرابات الأكل.
مطلوب مزيد من الوعي
لنتمكن من علاج الاضطرابات النفسية، علينا أولًا فهم حقيقتها، وأسبابها وأعراضها، وكيفية التغلب عليها أو التحكم فيها. ولا يوجد سبب يدعو إلى الخجل من الإصابة بأحد الاضطرابات النفسية، ولكن المشكلة الحقيقية تنبع من جهلها، وعدم إدراك أهمية التحدث إلى أسرتك أو طبيبك، والمضي قدمًا نحو بر الأمان.
المراجع
cmha.ca
health.gov.au
healthpartners.com
medicalnewstoday.com
who.int
المقال الأصلي منشور في مجلة كوكب العلم، عدد خريف 2020.
Cover image: www.flushinghospital.org