سنظل دومًا نكتب عن مدينة الإسكندرية ومكتبتها الشهيرة دون أن يدركنا الملل أو الكلل. فما قدمته مكتبة الإسكندرية القديمة ومدينتها للحضارة الإنسانية جمعاء من إسهامات غيَّرت مجرى التاريخ يستحق الكثير. فقد شهدت هذه المكتبة تزاوج الحضارة الفرعونية والحضارة اليونانية وبعض الحضارات الأخرى − مثل الحضارة الفارسية − فأنتجت الحضارة الهلينستية قبل ثلاثة قرون من ميلاد المسيح عليه السلام، وصنعت المعرفة وأتاحتها للعالم أجمع. ثم انطفأت شعلة مكتبة الإسكندرية في بدايات القرن الأول الميلادي بعد أن صدَّرت جميع أنواع المعارف إلى شتى بقاع الأرض.
وبعد ألفي عام عادت مكتبة الإسكندرية الجديدة لتواصل رسالة المكتبة القديمة، بفكرة جريئة من أحد أبناء مدينة الإسكندرية، وهو الأستاذ الدكتور مصطفى العبادي الذي نادى بإعادة إحياء المكتبة القديمة لتواصل مسيرتها عبر التاريخ. والدكتور العبادي هو أحد أساتذة الحضارة اليونانية والرومانية. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج في عام 1961، ثم تدرج في وظائف هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية إلى أن حصل على درجة الأستاذية في عام 1972. وقد تولى منصبي رئيس قسم الحضارة اليونانية والرومانية في عام 1972، ووكيل كلية الآداب لشئون الطلاب في الفترة بين عامي 1976 و1979.
شغل العبادي أيضًا عديدًا من المناصب بالهيئات الدولية والمحلية؛ فكان على سبيل المثال لا الحصر عضوًا بالمجمع العلمي المصري، ورئيسًا لجمعية الآثار بالإسكندرية، وعضوًا بالهيئة الدولية البردية ومقرها بروكسل ببلجيكا، وعضوًا بالجمعية الأمريكية للدراسات البردية بنيويورك، وعضوًا مراقبًا بالمجلس الدولي للدراسات الفلسفية والإنسانية، وعضوًا باللجان التحضيرية لمشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة، وعضوًا باللجنة العليا للتاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضوًا باللجنة الدائمة للآثار.
ولكن، كيف بدأت فكرة إعادة إحياء مكتبة الإسكندرية؟ ففي حديث للدكتور العبادي مع إحدى المجلات المصرية الكبيرة قال: «الحكاية بدأت في نوفمبر 1972 في محاضرة عامة بنادي أعضاء هيئة تدريس جامعة الإسكندرية بدعوة من الدكتور لطفي دويدار، قلت فيها إنه إذا كانت جامعة الإسكندرية تريد الاستنارة والاستزادة علميًّا وفكريًّا فلا بد أن تؤَسس مكتبة؛ لأن ظروف الحرب أثناء افتتاح جامعة الإسكندرية لم تجعل هناك فرصة لعمل مبنًى خاص للمكتبة. وتحمس لكلمتي وقتها الدكتور فؤاد حلمي؛ أستاذ الهندسة والعمارة ونائب رئيس الجامعة وقتها. وكانت هذه المحاضرة بمثابة اللبنة الأولى للمشروع. فبدأنا أنا ولطفي دويدار وفؤاد حلمي في البحث عن أرض لتنفيذ هذا المشروع. فاخترنا الموقع الحالي للمكتبة؛ نظرًا لأنه أكبر مساحة من أرض كوتة، وكانت مِلكًا للجامعة.
مرت سنوات توقفت فيها الفكرة بسبب ظروف البلد، وفي أوائل الثمانينيات بدأنا نعيد الموضوع مرة أخرى. ففي عام 1984، قام الدكتور فريد مصطفى؛ رئيس جامعة الإسكندرية وقتها، بتكوين لجنة ثلاثية لدراسة مشروع إحياء المكتبة، وتكونت اللجنة مني، ومن الدكتور لطفي دويدار والدكتور محسن زهران؛ لأن الدكتور فؤاد حلمي كان قد رحل، وكان من المهم أن يكون لدينا أستاذ في الهندسة باللجنة. وكان اليونسكو يريد خطابًا موجهًا من الحكومة لتتم دراسته بشكل جدي. يأتي هنا دور جندي مجهول من الجنود الذين ساعدوا على إحياء الفكرة وتنفيذها وهو الدكتور مصطفى كمال حلمي؛ وزير التعليم الأسبق؛ فطلبني وقال لي إن هناك وزراء في الوزارة ضد المشروع؛ لأنهم يرون أننا يجب ألّا نطلب من اليونسكو المساعدة على إنشاء مكتبة، ولكنه طلب مني كتابة صيغة الخطاب، وقال إنه سوف يقنع المجلس بإرساله لليونسكو.
كانت المفاجأة أن اليونسكو أخذت الموضوع بشكل جدي، وأرسلوا اثنين من المتخصصين في مجال المكتبات من فرنسا وسويسرا ليقابلا اللجنة، وليريا الوضع، وطلبا منا معرفة حالة المكتبات في مصر عمومًا. فقمت بعمل تقييم لأهم المكتبات في مصر، وهي: مكتبة جامعة القاهرة، ومكتبة دار الكتب بالقاهرة، ومكتبة البلدية بالإسكندرية؛ وقدمته للجنة اليونسكو».
منذ ذلك الوقت تكاتفت الجهود العالمية لإحياء مشروع المكتبة، وانطلق النداء الدولي بخمس لغات لدعم مشروع إحياء المكتبة في أكتوبر عام 1987، ثم جاء إعلان أسوان في عام 1990 إيذانًا ببدء المشروع الذي نراه اليوم على أرض الواقع. ومع احتفال مكتبة الإسكندرية هذا العام بمرور خمسة عشر عامًا على افتتاحها يودعنا العالم الجليل صاحب فكرة إعادة إحيائها، الأستاذ الدكتور مصطفى العبادي؛ ليسجل اسمه بأحرف من نور؛ خالدًا أبد الدهر خلود مكتبة الإسكندرية وعلامة مضيئة في تاريخها، وسيُذكر اسمه دومًا مقرونًا بهذا المشروع العظيم. فتحية شكر وتقدير لهذا العالم الجليل.