في صغري رغبت في شراء أرجوحة، لكنني لم أفعل قط. في البداية أحزنني الأمر، إلى أن طرأت لي فكرة وهي أن أصنع أرجوحة بنفسي. ربطت وشاح أمي في مرفقي كرسيين متجاورين، وسعدت بأول نموذج منخفض الدقة لأرجوحة، ولكنه أدى إلى أضرار غير محببة لأمي بالكراسي! كل إنسان منا لديه قصة مماثلة وصنع شيء ما؛ وليس جديدًا على البشر ابتكار حلولًا وفتح أبوابًا حديثة ومشاركتها مع الآخرين. فكلنا صناع، نصنع فطورًا، أو نصلح شيئًا مكسورًا، هكذا ولدت ثقافة «اصنعها بنفسك» من قبل ميلاد المصطلح نفسه، وأخذت أشكال عديدة وضمت حِرف متنوعة؛ فظهر مصطلح «حركة الصناع» Maker Movement.
بدأت «حركة الصناع» تتخذ شكلها الحالي في 2005، عندما صاغ ديل داوتري Dale Dougherty وفريقه مصطلح «ميكر» Maker (صانع)؛ ليضم كل هؤلاء الذين يصنعون وينتجون مهما كانت حرفتهم، وأسسوا مجلة «ميك» Make (اصنع) ومعرض «ميكر فير» Maker Faire )معرض الصناع) ليكون عيدًّا للصناع حول العالم. وتُنظم هذه الفعالية في القاهرة بمصر منذ عام 2015، بعنوان «ميكر فير كايرو» احتفالًا بهذه الثقافة؛ في جو مليء بالمرح والأنشطة في التكنولوجيا والعلوم والفن.
جانب من فعاليات مركز القبة السماوية العلمي في «ميكر فير كايرو»، القاهرة. المصدر: Facebook
ومن المشاركين المعتادين في معرض الصناع بالقاهرة منذ 2019، الأستاذة روان سرور والتي قالت في تصريح لنا «شغفت بالرسم والأعمال اليدوية منذ طفولتي، وعندما كنت في الصف الأول الثانوي أردت عمل سيارة بمادة أستطيع إيجادها بسهولة»، وبعد بحث دقيق، وجدت في الورق ضالتها. وقد بدأت روان رحلتها الاستكشافية في 2016 لتعرف باسم «مجنونة ورق» أو فنانة الأوريجامي، ومؤسسة بيبر وورلد Paper World (عالم الورق).
روان سرور، مؤسسة بيبر وورلد Paper World (عالم الورق). المصدر: Facebook
ويقول أيضًا مايكل هنري؛ صانع ومؤسس وودي Woodei: «كان هذا حلمي منذ وقت طويل عندما شاهدت في برنامج تليفزيوني نحت قطعة خشبية بالسكين لعمل صفارة. ومنذ ذلك الوقت تعلقت بالأعمال الخشبية». ففي فترة العزلة الاجتماعية التي فرضها فيروس كورونا المستجد، أراد مايكل هنري تحقيق حلمه، فبدأ ينحت أشياء بدائية، ومع تعمقه في الأمر وتشجيع الناس له، استخدم أدوات مناسبة وتطورت مهاراته ليضيف إلى مجسماته الحركة وفن الأوتوماتا بمنحوتاته.
“You make my heart fly” - Padauk & Brass Automaton by Woodei - Michael Henry
زاوية جديدة
انتشرت حركة الصناع لتواكب تطورات الثورة الصناعية الرابعة؛ وتعني الثورة الصناعية مجموعة من الابتكارات المرتبطة ببعضها وتسبب تغييرًا جذريًّا في المجتمع. وقد بدأت الثورة الصناعية الأولى في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حين تعرف البشر الفحم، ثم انتقل العالم إلى الثورة الصناعية الثانية عندما صار الإنسان قادرًا على التحليق بالطائرات وسباق الخيل بالسيارات بسبب اكتشاف القوة المذهلة للكهرباء، ثم جاءت الثورة الصناعية الثالثة التي هيأت طريقها الحواسيب وأتاحت ميكنة الآلات؛ والآن، نحن على أعقاب الثورة الصناعية الرابعة التي يطرحها إنترنت الأشياء والسيارات ذاتية القيادة. وبسبب هذه القفزات لابد من تغير وتحول ودمج أفكار جديدة في التعليم لاكتشاف حلول وطرق مبتكرة.
Credit: Christoph Roser/AllAboutLean.com
يؤكد الأستاذ عمر الصفطي؛ المدير العام لشركة «صنعة تِك»: «كان ينظر إلى حركة الصناع في الماضي على أنها رفاهية، أما الآن فهي شيء ضروري في حياة أي شخص. فنحن بحاجة إلى أن نكون منتجين لا مستهلكين، نساعد مجتمعنا»، كما أن هذه الحركة تحسن الصحة النفسية وفق دراسات أخيرة. وقد كانت أول براعم تأثير هذه الحركة في التعليم العالي نشأة «فاب لاب» Fab Lab بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT (إم أي تي) وتوسعه ليصبح شبكة عالمية؛ فهو مساحة حرة للإبداع واختصار لمصطلح «معمل التصنيع الرقمي» Digital Fabrication Laboratory.
وتوضح لنا لمياء نايل؛ مديرة البرامج التعليمية بشركة «صنعة تِك» الفكرة قائلة: «تخيل أن لديك فكرة لجعل باب غرفتك لا ينغلق بعنف نتيجة تيار الهواء الشديد. فيمكن للمهندس أن يصنع تصميمًا يدويًّا، ثم يذهب به إلى مصنع، ولكن دون جدوى لأنهم لا يسمحون بصناعة نسخة واحدة. وكذلك إن لم تكن مهندسًا، فبدلًا من الذهاب إلى المصنع، يمكنك الذهاب إلى مكان لتصنيع فكرتك حتى لو لم تكن خبيرًا في الحرف اليدوية، فلا يلزم تصنيع فكرتك سوى تعلم مهارات بسيطة والتعامل مع ماكينات رقمية كماكينة التقطيع بالليزر؛ فهذا المكان السحري هو «فاب لاب»».
Maker Movement: It’s about creating rather than consuming - The Feed
الحرف اليدوية ضد الماكينات الرقمية
لم يكن التعليم العالي فقط من له نصيب في تداخل حركة الصناع مع التعليم لاعتماده على التعلم القائم على المشروعات؛ فهو أمر يُدمج في التعليم ما قبل الجامعي تدريجيًّا. ويضيف مايكل هنري «بفضل مجتمع الصناع تعرفت على أدوات التصنيع الرقمي، وأصبح الآن بإمكاني تنزيل تصميم لترس من الإنترنت وطباعته بالطابعة ثلاثية الأبعاد بدل برد هذا الترس ونشره في عدة أيام. وقد أدى هذا إلى مساحة أكبر في الإبداع، ولكن ما يزال لدي صراع داخلي معها».
تشاركنا أنا ولمياء قصصًا حول صنع جداتنا لقوالب الحلوى وتعلم الخياطة، وخطر لي أننا سنكون الجدات والأجداد الحرفيين؛ ممسكين بالطابعة ثلاثية الأبعاد في يدنا اليمنى، وبإبرة أو ورق أو منشار باليسرى.
المراجع
sciencemuseum.org.uk
unesdoc.unesco.org
weforum.org
researchgate.net
fabfoundation.org
link.springer.com
sparkfuneducation.com
batjo.eu