إن ما بين أيدينا الآن من علوم ومعارف مختلفة في شتى المجالات، سواء العلمية منها أو الأدبية، لم تأت إلينا على طبق من فضة؛ ولكنها جاءت من خلال معاناة حقيقية لأصحابها. فقد شهد التاريخ كثير من المعاناة التي تكبدها العلماء على مرِّ العصور المختلفة؛ فلم يكن طريقهم ممهدًا بالأزهار والورود، بل حفل التاريخ بقتل العلماء، وسحلهم، وصلبهم، وتقطيع أوصالهم، ونفيهم، وتكفيرهم لما دوَّنُوه من آراءٍ ونظريات مخالفة لما هو متعارف وقتها من حقائق وعلوم ثابتة في عصورهم، خاصة من رجال الدين ورجال السلطة.
فهل تعلم عزيزي القارئ مثلًا أن العالمة السكندرية هيباتيا، وهي الرياضية، والفلكية، والفيلسوفة، التي عاشت في القرن الخامس الميلادي بمدينة الإسكندرية بين أروقة مكتبتها تم سحلها في شوارع مدينتنا العريقة؟ فتذكُر المصادر أنها ماتت على يد عصبة من المتعصبين دينيًّا بعد اتهامها بالسحر والهرطقة. فعقب ندوة علمية أقامتها هيباتيا قام الغوغاء باسم الدين بسحلها من شعرها، ثم تجريدها من ملابسها، وربطها من يديها، وجرها في شوارع وطرق الإسكندرية؛ لينفصل جلدها عن لحمها حتى باتت جثة هامدة، وبعدها أحرقوها؛ إمعانًا في التمثيل بجثتها.
هل تعلم عزيزي القارئ أن يوجد بعضَ الأسماء التي تفخر بها الحضارة الإنسانية مات أصحابها أبشع الميتات، وأن حياة هؤلاء العلماء كانت هربًا ومعاناة من رجال الدين، واتهامهم بالزندقة والكفر، أو هربًا من أهواء الملوك والأمراء؛ مما جعل أندرو وايت يؤلف كتابًا بالقرن التاسع عشر سماه «النزاع القائم بين العلم والدين»، جمع فيه أشكال الاضطهاد ومدى المعاناة التي واجهها هؤلاء العلماء من العرب وغيرهم، وأورد فيه أمثلة كثيرة على ذلك، أمثال نيكولاس كوبرنيكوس، وجاليليو، وكرستوفر كولومبس، والكندي، وأبو بكر الرازي، وابن رشد، والفارابي، وغيرهم.
فيذكر التاريخ أن أبا بكر الرازي أحد عباقرة زمانه في الكيمياء والفلسفة يُضرب على رأسه من قبل رجال الدين الذين شنوا عليه حربًا شعواء حتى أصيب بالعمى ومات بعدها أعمى. وإليك عزيزي القارئ أبشع الميتات التي واجهها ابن المقفع صاحب الكتاب الأشهر «كليلة ودمنة»؛ حيث قُطعت أوصاله، وفُصل رأسه عن جسده، ثم أُحرق بأمر من الخليفة المنصور الذي اتهمه بالكفر والإلحاد.
ومن منا لا يعرف نكبة العالم والفيلسوف ابن رشد الذي حالفه الحظ ولم يمت حرقًا كغيره من العلماء والفلاسفة، بل حُرقت مؤلفاته. فقد نفي وعزل ذليلًا ببلدة ألْيُسَانة اليهودية، وهي إحدى بلدات مقاطعة قرطبة؛ حيث قارب السبعين من عمره، ليعاني هناك أشد المعاناة وهو في أرذل العمر. هل تعلم أيضًا عزيزي القارئ أن ابن سينا صاحب «القانون في الطب» مات وهو لم يتجاوز الخمسين من عمره بسبب مرض أصابه أثناء حبسه وتعذيبه بعد هروبه مع أحد أصدقائه؛ لاتهامه بالكفر والزندقة، والأمثلة كثيرة في هذا المقام.
هذا غير ما تعرض له العلماء من أنواع الاضطهاد أمثال الغزالي، وابن حيان، والجاحظ، والمعري، والكواكبي، والمتنبي، ولسان الدين الخطيب، وابن الهيثم الذي ادعى الجنون؛ هربًا من بطش الخليفة الحاكم بأمر الله. ومن ناحية أخرى نجد المصادر التراثية تزخر بالقصص والروايات التي تكشف لنا عن مدى تكبد العلماء المشقة، والجهد، والأسفار سعيًا وراء العلم والتعلم.
نذكر منها مثالًا واحدًا يكفي كي يعبر عن ذلك وهو ما ذكره ابن القفطي بكتابه «تاريخ الحكماء» متحدثًا عن حنين بن إسحاق، الطبيب والمترجم الشهير، في سبيل الحصول على كتاب «البرهان» لجالينوس، الذي كان وجوده نادرًا في زمانه. فيذكر قول حنين بن إسحاق في طلبه لكتاب جالينوس في الطب ما يلي: «قول حنين: إنني بحثت عنه بحثًا دقيقًا وجبْت في طلبه أرجاء العراق، وسوريا، وفلسطين، ومصر إلى أن وصلت إلى الإسكندرية؛ ولكن لم أظفر إلا بما يقرب من نصفه في مدينة دمشق»، مع الوضع في الاعتبار كم كانت مشقة السفر وقتها في القرن التاسع الميلادي.
فما بالك كيف ألَّف العلماء المسلمون كتبهم، وموسوعاتهم، وتراجمهم العلمية والأدبية في العصور السابقة، والتي تخطت فيها الموسوعة الواحدة آلاف الأوراق والصفحات. مما لا شك فيه أن هؤلاء العلماء بذلوا من الجهد المُضني ما لم يستطع أحدٌ فعله إلا أصحاب العزيمة القوية، وإيمانًا منهم بأن الحضارة لا تُبنى إلا بالعلم؛ فخلَّفوا تراثًا علميًّا وأدبيًّا كان له بالغ الأثر، يُعد من أهم العوامل التي أدت إلى صناعة الحضارة الإنسانية كافة في شتى المجالات، التي انطلق منها الغرب لصناعة حضارتهم، وتخلفنا نحن بعدها.
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة «كوكب العلم»، عدد شتاء 2016.
Cover Image by KamranAydinov on Freepik