ابني يوسف يحب المواد العلمية والاكتشافات، ويكاد لا يرى من قنوات التلفزيون سوى القنوات العلمية والاستكشافية مثل ناشيونال جيوغرافيك وديسكفري والكوكب الأخضر، ومن البرامج «متع عقلك» و«سحر الفيزياء» وما إلى ذلك. في أحد النقاشات مع يوسف كان الحوار التالي:
يوسف: كيف لي يا أبي أن أصبح عالمـًا، وأحصل على جائزة نوبل في العلوم؟
أجبته ناصحًا: عليك أن تجتهد في المذاكرة، وتؤمن بها، وتضع أمامك هدفًا، وتتعب حتى تصل إليه، وتدخل كلية العلوم أو كلية الطب مثلًا، ومن ثَمَّ تراسل علماء دوليين لمناقشة قضية علمية لم يتطرق إليها أحد قبلك، وتصل بأبحاثك لنتائج تخدم بها البشرية.
يوسف: مثل أحمد زويل يا أبي؟
أنا: تمامًا، ولكن الطريق إلى نوبل ليس سهلًا كما تتوقع، وليس قصيرًا. هل تعلم لمن منحت جائزة نوبل لعام 2017 في الطب؟ ولماذا؟
يوسف كأنه يجيب عن سؤال في مسابقة: نعم، حصل عليها ثلاثة علماء أمريكيين بالتساوي؛ لاكتشافهم الجينات المسئولة عن الساعة البيولوجية في الكائنات الحية.
أنا: وهل تعرف أعمار هؤلاء العلماء الثلاثة وقصة بحثهم؟
يوسف: لا، يا أبي.
أنا: الأول هو الدكتور جيفري هول من نيويورك وعمره 72 سنة، والثاني هو الدكتور مايكل روزباش من كانساس وعمره 73 سنة، والثالث هو الدكتور مايكل يونج من ميامي وعمره 68 سنة.
يوسف: ولماذا لم ينالوا جائزة نوبل وهم أصغرون سنًّا؟!
أنا: بدأت القصة منذ ثلاثة وثلاثين عامًا؛ بالتحديد في عام 1984 عندما بدأ العلماء أبحاثهم عن الجينات المسئولة عن التحكم في الساعة البيولوجية لذبابة الفاكهة وفهمها.
استوقفني يوسف: ولماذا ذبابة الفاكهة بالتحديد يا أبي؟ وما سبب البحث من الأساس؟
رددت عليه: يبدو أنك لا تدرك معنى الساعة البيولوجية...
قال يوسف محاولًا نفي ظنوني: بلى، هي شيء داخل مخ الإنسان يتحكم في مواعيد نومنا واستيقاظنا تلقائيًّا.
أردفت: معك حق، والساعة البيولوجية مسئولة أيضًا عن التغيرات الكبيرة التي تحدث في السلوك والمزاج النفسي ووظائف الجسم نفسه. ففي كلِّ خلية تقريبًا في جسم الإنسان والنباتات والحيوانات، حتى الفطريات، يوجد شيء أشبه بالساعة. ويسبب تعطل الساعة البيولوجية مؤقتًا أثناء الرحلات الجوية الطويلة اضطرابًا يعرف باسم «Jet lag»؛ حيث يؤدي هذا الاضطراب إلى عدم تكيف جسم الإنسان مع العالم حوله والمكان الجديد حين يسافر مسافات طويلة. ينجم عن هذا الاضطراب مشكلات في الجهاز الهضمي، وصداع، وأرق، وأحيانًا اكتئاب مؤقت.
أما لماذا ذبابة الفاكهة تحديدًا؛ فهو لأن العلماء اكتشفوا أن البروتين المعروف بـ«PER» الذي يقوم بتشفيره الجين المعروف بـ«Period» يتراكم داخل خلايا ذبابة الفاكهة أثناء الليل ويتحلل أثناء النهار. هكذا، توصلوا إلى أن مستويات بروتين «PER» تتذبذب وتتغير على مدار دورة الأربع والعشرين ساعة التي تُمثِّل دورة الأرض في تزامنٍ مع إيقاع الساعة البيولوجية في جسم ذبابة الفاكهة.
عقب يوسف: ولكن يا أبي، كيف يقومون بعمل هذه الدراسات والجينات التي لا ترى أساسًا بالعين المجردة؟
أجبت بصبر: بالتحاليل الميكروسكوبية والكيميائية الدقيقة؛ فقد ساعد تطور وسائل التحليل الكيميائي خلال هذه السنوات الطويلة العلماء الثلاثة وفريق العمل معهم على إنجاز بحثهم. فقد كان العلماء في البداية يظنون أن تعاقب إفراز وتحلل البروتينات المسئولة عن الجينات الموجودة داخل الخلايا تعمل بسبب حركة الضوء بالنهار والظلام بالليل. ولكن، عندما عزلوا ذبابة الفاكهة في مكان مظلم لمدة أربع وعشرين ساعة متواصلة، وكذلك ذباب آخر في مكان مضيء تمامًا لمدة أربع وعشرين ساعة متواصلة، وجدوا عدم وجود خلل في حركة إفراز وتحلل البروتينات المسئولة عن جينات الساعة البيولوجية. ومن ثم، هي عملية داخلية ذاتية لا تتأثر بالنور والظلام، ولكنها تتأثر بنفس مدة دوران الأرض حول نفسها.
سأل يوسف مرة أخرى: ولكن، ما الفائدة وراء تلك النتائج يا أبي؟
رددت مستمتعًا: الفائدة ليست النتائج التي وجدوها في دراسة ذبابة الفاكهة فحسب، بل أيضًا وجدوا تَفَتُّح أوراق نبات شجر الميموزا باتجاه الشمس خلال النهار وانغلاقها في المساء. فقاموا بوضع النبات في ظلمة دائمة واكتشفوا أن الأوراق استمرت في متابعة إيقاعها اليومي بشكلٍ طبيعي. وعندما قاموا بالتحكم في كمية البروتين المسئول عن جينات الساعة البيولوجية داخل الخلية، وجدوا طريقًا للتحكم في سلوك بعض الأنشطة الحيوية.
ردًّا على سؤالك بخصوص أهمية البحث، أجيبك أنه باكتشاف آلية عمل الجينات الخاصة بالساعة البيولوجية، أصبح من الممكن العمل على التحكم فيها، وفي نسب إنتاجها، ومن ثم العمل على اكتشاف علاجات لكثير من الأمراض الخطيرة الناتجة عن اضطراب الساعة البيولوجية.
عقب يوسف: حقًّا يا أبي، إنه بحث معقد، ولكنه مهمٌّ جدًّا.
أكدت تعقيبه قائلًا: صدقت، فقد وصفت اللجنة التي منحت جائزة نوبل بحث العلماء الثلاثة بالمعقد، ومنحوهم قيمة الجائزة 1.1 مليون دولار يقتسمونها بالتساوي.
شكرني يوسف منتشيًا، وقام بحماس ليكمل مذاكرته.
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد شتاء 2018.
Cover image by diana.grytsku on Freepik