إراتوستينس القوريني هو ثالث مدير لمكتبة الإسكندرية القديمة، وهو أحد أعاظم العلماء في التاريخ الإنساني كله. ولد إراتوستينس بن أجلاوس في قورينة بليبيا قرابة عام 275 ق.م.، وتوفي في الإسكندرية بمصر قرابة عام 195 ق.م. وكانت قورينة آنذاك مركزًا منيرًا للثقافة الهلينستية؛ فتعلم فيها إراتوستينس في طفولته المبكرة، وصباه، ومطلع شبابه، ثم غادرها إلى أثينا التي كانت بدورها مركزًا تعليميًّا وثقافيًّا كبيرًا.
تركزت دراسة إراتوستينس بأثينا على الفلسفة، إلى جانب الرياضيات والعلوم اللتين كانتا تُدرَّسان في أكاديمية أفلاطون وفي ليسيوم أرسطو؛ مركزي التعليم الرئيسيين في أثينا. وقد أدى تشكيله الفلسفي إلى تأليفه بعض الكتب الأدبية والفلسفية التي لفتت الأنظار إليه، وأدت إلى استدعائه من قِبل الملك بطليموس الثالث يوارجيتيس للحضور إلى مصر ليكون معلمًا لابنه؛ حيث حصل على منحة دراسية وإقامة في الموسيون - معبد ربات العلوم والفنون - والمعهد العلمي الأشهر في العالم القديم.
على الرغم من مكانته المرموقة ومنصبه الرفيع، فإنه لم يكتفِ بذلك قط؛ بل كانت إسهاماته العلمية هي السبب الرئيسي في تخليد ذكراه. فهو واضع أسس علم الجغرافيا، والتي ابتكر اسمها من كلمة «جيوجرافيكوس» التي تعني رسم الأرض. كما أسس الكارتوجرافيا (علم رسم الخرائط)، وهو أول من كتب تاريخ الإغريق مستندًا إلى الترتيب التاريخي للأحداث ومنقحًا التاريخ من الأساطير؛ فكانت الكرونولوجيا. وهو أول من رسم خريطة الأرض على كرة، وأول من أثبت كرويتها بتجربة عملية لا تحتمل الشك؛ كما أن إراتوستينس هو أول عالم في التاريخ ينجح في قياس محيطها بتجربة علمية مثبتة وبهامش خطأ لا يتجاوز 1% عن أحدث القياسات. وهو أحد علماء الفلك المعدودين في تاريخ المكتبة القديمة، كما أنه كان عالـمًا في الرياضيات؛ فهو صاحب ما يسمى «غربال إراتوستينس» للتعرف على الأرقام الأولية، كما أن له كتابات أدبية ولغوية.
وقد أطلق رفقاء إراتوستينس لقبين عليه تأكيدًا لغزير علمه وتنوع اختصاصاته: الأول هو «بنتاثلوس»، وهو لقب له دلالة في مدح شخص متعدد المواهب والتخصصات وكان يطلق على الرياضيين البارعين في هذا العصر. أما اللقب الثاني فهو «المعلم بيتا»، وهو اللقب الأكثر شهرة، و«بيتا» هو الحرف الثاني من الحروف الهجائية اليونانية ومن يحمله يحتل المرتبة الثانية في كل العلوم، على اعتبار أن من يحتل المرتبة الأولى هو أفلاطون.
ظل إراتوستينس يترأس مكتبة الإسكندرية قرابة أربعين عامًا، وفي عهده أُنشئت المكتبة الابنة في السيرابيوم (منطقة كوم الشقافة بالإسكندرية حاليًّا)، والتي تم تأسيسها لكي تستوعب الأعداد الهائلة من البرديات التي لم يتسع لها المبنى الرئيسي للمكتبة الموجود في الحي الملكي المطل على البحر. كان إراتوستينس يتعلم لآخر لحظات حياته، وكان يواصل الليل بالنهار في ارتشاف رحيق العلم والبحث، إلا أنه للأسف أصيب بالعمى وهو شيخ في قرابة الثمانين من عمره؛ فترك منصبه كمدير للمكتبة. ويبدو أن عينيه كانتا الحياة بالنسبة له؛ فما كان منه إلا أن قرر الانتحار، وامتنع عن الطعام بالفعل حتى مات جوعًا.
رُوي الكثير عن هذا العالم الجليل، ولكن للأسف لم يتبقَّ لنا من أعماله المكتوبة شيء؛ فعرفناه عن طريق من جاءوا بعده. وقد اعترف الجميع بفضله، حتى من اختلفوا معه؛ فظل الجميع يقرون بأنه كان «المعلم بيتا» حقًّا. ولم نعرف قط ما الذي أصاب إنتاجه الفكري المكتوب؛ لكن المدهش أن تختفي أعماله بالكامل ويظل هو موجودًا بأفكاره، وإسهاماته، واعتراف العلماء بمكانته العظيمة في مسيرة العلم الإنساني.