أعتقد أن أولى انطباعاتي عن الخيول تكونت من خلال مشاهدتي المتكررة لفيلم معين عندما كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري. حينها في التسعينيات، كانت أسرتي تمتلك جهاز فيديو (VCR) اعتدنا استخدامه لتسجيل أفلامنا المفضلة وتشغيلها، وكان فيلم «الراقص مع الذئاب» Dances with Wolves (1990) أحد تلك الأفلام. فقد تأثرت بالعلاقة التي جمعت بين الملازم جون دنبار (يجسد شخصيته كيفين كوستنر) وبين حصانه الوفي سيسكو. (إنذار بالكشف عن إحداث الفيلم!) وأتذكر جيدًا كم تأثرت بمشهد قتل سيسكو.
الملازم جون دنبار ممتطيًّا حصانه سيسكو، من فيلم «الراقص مع الذئاب» Dances with Wolves (1990).
حقوق الصورة © 2023 Scribd Inc
تدور أحداث الفيلم في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن التاسع عشر، أي قبل قرابة عشرين عامًا من بدء الإنتاج التجاري لمحركات السيارات. وهكذا، فإنه يوضح الدور الجوهري الذي كانت الخيول تؤديه في حياة البشر اليومية؛ سواءً كانت حياة بسيطة مثل حياة قبائل الأمريكيين الأصليين أو حياة القوات العسكرية الأمريكية الأكثر تطورًا. لقد ظلت الخيول وسيلة المواصلات الأسرع التي أعتمد عليها البشر حتى القرن التاسع عشر، وتلك تعدُّ نقطة قريبة في تاريخ الإنسانية بالغ الطول.
الخيول في التاريخ
وفقًا للمستشار جمال أبو الحسن –مؤلف الكتاب القيِّم بعنوان «300,000 عام من الخوف: قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد»– استأنس البشر الخيول لأول مرة على يد قبائل كانت تعيش في وسط آسيا. وقد منح ترويض هذه الثدييات البرية تلك القبائل أفضلية كبيرة، وساهم في نشر ثقافاتهم ولغاتهم الهندوأوروبية وبقائها.
في الواقع، مثَّل استئناس الخيول علامة فارقة في تاريخ الحضارة الإنسانية؛ إذ أمدتنا بأولى وسائل النقل السريع وسمحت للبشر بالتنقل لمسافات بعيدة، مما ساهم في انتعاش حركة التجارة والهجرة والتفاعل الثقافي. قدرة الخيول الكبيرة على التحمل وحمل الحمولات سمحت للدول بالازدهار وللامبراطوريات بتحقيق السيادة.
وإلى جانب الاستخدامات السلمية للخيول فقد أظهرت أيضًا نفعًا كبيرًا في الحروب، إذ استُخدمت في المعارك منذ قرابة 2,500 قبل الميلاد. فكانت العجلات الحربية التي تجرها الخيول اختراعًا حربيًّا ثوريًّا، كان له أثرًا في معارك قدماء المصريين مع الهكسوس حتى تمكن الملك أحمس من التغلب عليهم في النهاية. وبعدها بقرون، أصبح سلاح الفرسان جزءًا أساسيًّا في الجيوش المنظمة. وجدير بالذكر أن استخدام الخيول في الحروب قد استمر حتى في أثناء الحرب العالمية الثانية منتصف القرن العشرين، وذلك جنبًا إلى جنب مع السيارات والدبابات المسلحة الحديثة.
لواء ثقيل في معركة بالاكلافا، 25 أكتوبر 1854. متحف الجيش الوطنى، الصورة لا تخضع لحقوق ملكية فكرية
الخيول في الثقافة
في البداية، دعوني أخبركم أن الخيول قد ألهمت ملابسنا بشدة؛ إذ استحدث البنطال لأول مرة لأغراض ركوب الخيل. إنها معلومة مثيرة للاهتمام، أليس كذلك؟
كثيرًا ما ترتبط الخيول بمعانٍ وصفات حميدة مثل النبل والرشاقة وقوة التحمل والنصر والبطولة والقوة؛ ومن ثَمَّ ألهمت الفنانين عبر العصور. فقد تجلت الخيول بقوة في الفن الحجري القديم، وذلك قبل استئناس البشر لها بوقت طويل. وخير مثال على ذلك رسومات كهف لاسكو بفرنسا التي تعود إلى قرابة 15,000 عام.
Bridgeman Images ©
akg-images ©
والخيول لها حضور قوي في بعض الثقافات مثل الثقافة العربية وثقافة الأمريكين الأصليين. فالعرب مثلًا يفتخرون جدًّا بسلاسة الخيول العربية، التي تذكر الموسوعة البريطانية أنها أولى سلالات الخيول المحسنة، وأنها تحظى بتقدير كبير لما تتسم به من سرعة وقدرة على التحمل وجمال وذكاء ولطف. وقد مدح شاعرنا العربي البارز أبو الطيب المتنبي (915–965 ميلاديًّا) قوة الخيول في بيته الشعري الشهير: «مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ».
بعد نحو ثمانية قرون، أبدع الرسام البريطاني جورج ستابس بعض أروع اللوحات التي تصور الخيول. وتعدُّ لوحة ويسل جاكيت التي تصور حصان سباق عربي من روائعه، وهي معروضة في المعرض الوطني بلندن.
.لوحة ويسل جاكيت (1762). للفنان: جورج ستابس
لوحة لأسد يهاجم حصان (1762). للفنان: جورج ستابس
أخيرًا وليس آخرًا، وطدت الخيول وجودها في كثير من الرياضات المرموقة عبر التاريخ البشري، تُعرف مجتمعة برياضات الفروسية. وتشمل رياضات الفروسية ركوب الخيل والمجاولة وسباق الخيل وقفز الحواجز والبولو. وقد انبثقت بعض رياضات الفروسية عن مهارات الأعمال التي تعتمد على الخيول، مثل مسابقات رعاة البقر (الروديو) المرتبطة بمهارات رعي البقر في إسبانيا والمكسيك والأمريكتين.
قفز الحواجز. Designed by Freepik
مسابقات رعاة البقر (الروديو)
الخيول في الأحياء
وفقًا للمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، يوجد أكثر من 200 سلالة مختلفة من الخيول في عالمنا اليوم. ورغم أن كل سلالة لها سماتها الجسدية المميِِّزة، فإن جميع تلك السلالات تنتمي لنوع حي واحد؛ يُعرف بـEquus caballus هذا ويُمكن تصنيف جميع الخيول وفقًا لنوع جسدها إلى ثلاثة أنواع: الفرس القزم، والخيول الخفيفة، والخيول الثقيلة.
وتستحدث السلالات عن طريق تهجين الخيول ذات صفات معينة لتمرير الجينات المرغوبة، وهكذا تصبح السلالة مناسبة لتأدية الغرض المطلوب منها. على سبيل المثال، تشتهر سلالة الخيول العربية وسلالة خيول ثوروبريد بوصفها سلالات خيول سباق خفيفة، في حين أنه كثيرًا ما تستخدم خيول الجرِّ البلجيكية –التي تُعدُّ أقوى سلالات الخيول– لجرِّ العربات وأداء الأعمال في الحقول الزراعية.
خيول الجرِّ البلجيكية Image source: Pinterest.com
الحصان؛ وحدة قياس
كان اختراع المحرك البخاري في القرن الثامن عشر العلامة الفارقة الثانية في تاريخ النقل بعد استئناس الخيول. ولقياس قوته، قارنها المهندسون بقوة الخيول التي اعتاد الناس الاعتماد عليها حتى ذلك الوقت. كان المهندس الاسكتلندي جيمس واط أول من استحدث وحدة قياس «الحصان» Horsepower بعد تجارب أجراها مستعينًا بخيول الجرِّ.
عند قياس قدرة الأجهزة الكهربائية، يعادل الحصان 746 واط. وتستخدم وحدة الحصان أيضًا لحساب سرعة إنتاج القوة من محركات المركبات؛ إذ عادة ما يُتوقع حصان واحد لكل 7 إلى 20 CC (وهي وحدة قياس مساحة غرفة الاحتراق بالسنتيمتر المكعب).
لا تزال الخيول حتى يومنا هذا تؤدي دورًا أساسيًّا وتحظى بقيمة اقتصادية كبيرة في حياة عديدين حول العالم، سواءً كا هذا لأغراض كسب الرزق أو لأغراض ترفيهية. ولكي تؤدي الخيول مهامها بكفاءة، لا بد من أن تحصل على ما تحتاج إليه من رعاية وطعام. وختامًا، يجب على الجهات المعنية اتخاذ التدابير الرادعة اللازمة للحدِّ من إجبار الخيول على ممارسة العمل الشاق، وتعذيبها، وغير ذلك من الممارسات الاستغلالية ضد تلك المخلوقات الرائعة.
المراجع
historytoday.com
amnh.org
horseandhound.co.uk
britannica.com
جمال أبو الحسن، «300.000 عام من الخوف: قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد». الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الثالثة. القاهرة، 2023.
Cover image by vecstock on Freepik