أضواء راقصة محيرة في السماء، تومض عبر الغطاء الأزرق الذي يحجب العالم عند هبوط الليل. مشهد ساحر لا مثيل له، يسبي بعظمته ألباب مشاهديه. إنه مشهد الشفق القطبي الشمالي والجنوبي. وهو منظر طبيعي يحدث عند قطبي الأرض أذهل البشر لوقت طويل؛ فاختلقت عديد من الأساطير والخرافات عبر الزمن لتشرح تلك الظاهرة الملهمة، إلا أننا مؤخرًا فقط توصلنا لتفسير أفضل لها. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن سبب تلك الظاهرة معروف الآن، فإننا لم نكشف جميع أسرارها بعد.
تبدأ رحلتنا في فك لغز أضواء القطبين من صديق نثق به؛ وهو الشمس. فيتكون الشفق القطبي في الحقيقة بفعل الرياح الشمسية؛ وهي جسيمات مشحونة آتية من الشمس تصطدم بالمجال المغناطيسي للأرض. وسنفهم كيفية حدوث الأمر برمته فقط عندما نتتبع رحلة الجسيمات من بدايتها حتى اصطدامها بالمجال المغناطيسي للأرض، فدعونا نبدأ رحلتنا.
ربما تكون قد بدأت تشعر بدفء الشمس بالفعل، أو ربما بالانزعاج من أثر الحرارة. ولكن لا تقلق؛ فنحن سنلقي نظرة سريعة إلى الشمس، ثم نعود أدراجنا إلى الأرض قريبًا جدًّا. إن الشمس هي النجم الأقرب لكوكبنا؛ فهي تمدنا بالحرارة والضوء. وبشكل أساسي، فإن الشمس كتلة ساخنة من الغازات، أغلبها غاز الهيدروجين. ولأنها شديدة الحرارة، فإن السواد الأعظم من هذه الغازات موجود في الحالة الرابعة للمادة؛ وهي البلازما. نظرًا لارتفاع الضغط والحرارة التي تتخطى الأربعة عشر مليون درجة في مركز الشمس، يحدث تفاعل بين ذرات الهيدروجين؛ فتندمج مكونة الهيليوم، ومنتجة كمًّا كبيرًا من الطاقة والضوء يشعان من مركز الشمس لسطحها.
يتحول الغاز الساخن إلى بلازما تجري في دوامات من مركز الشمس لسطحها من خلال الحمل الحراري. فعندما تسخن البلازما في مركز الشمس ترتفع إلى سطحها في دوامة مستمرة؛ حيث تبلغ من الحرارة ما يكسبها شحنة كهربائية، مكونةً مجالات مغناطيسية قوية، في حين تتحرك أعلى وأسفل تيارات الحمل الحراري. ولأن الشمس تدور حول محورها، فإن البلازما تجري بدورها على الجوانب جارحة خطوط المجال المغناطيسي، والتي تظل تقوى حتى ترتفع إلى السطح وتنفذ من خلاله. تحدث تلك العملية في قمة النشاط الشمسي.
قد تتساءل الآن عن ماهية قمة النشاط الشمسي. حسنًا، تتبع الشمس دورة شمسية تستمر أحد عشر عامًا يتراوح خلالها النشاط الشمسي من أضعف حالاته إلى أقواها معتمدًا على المجال المغناطيسي. وهذا الأمر ذو أهمية كبيرة لنا؛ فعندما تكون الشمس في قمة نشاطها، تتعرض الأرض لعواصف شمسية أكثر؛ لأن مجالات مغناطيسية أكثر تندفع وتنفذ عبر السطح، مسببة دوامات من الغازات الساخنة ومكونة البقع الشمسية.
بمجرد أن يندفع الحقل المغناطيسي إلى خارج السطح، تستمر البلازما في دفعه خارجًا حتى يصل إلى نقطة الانكسار، وينفصل عن سطح الشمس. هذا ما يسمى بالرياح الشمسية؛ وهي أكبر عدة مرات من حجم الأرض. بعد فترة تتشتت الحقول المغناطيسية وتعيد تنظيم نفسها مرة أخرى؛ وذلك في فترة خمول النشاط الشمسي. وتكون الرياح الشمسية التي تتكون في فترة خمول النشاط الشمسي خفيفة وبطيئة، في حين تكون تلك التي تتكون في قمة النشاط الشمسي قوية جدًّا. ويستطيع العلماء القول ما إذا كان هناك مزيدٌ من الرياح الشمسية أو لا؛ عن طريق مراقبة البقع الشمسية.
كيف تتصرف الرياح الشمسية إذًا؟ الرياح الشمسية في الأساس تيار مستمر تتباين كثافته وفقًا للدورة الشمسية، وهي تستطيع السفر بسرعة 400 كم/ الثانية، وتستغرق يومين إلى أربعة أيام للوصول إلى الأرض. وتتكون البلازما – وهي المكوِّن الأساسي للرياح الشمسية – من ذرات موجبة الشحنة وإلكترونات تطفو واحدًا حول الآخر. هذا، ويسمح كلٌّ من شحنات الطاقة العالية وتمدد المجال المغناطيسي للرياح الشمسية بالهروب من المجال المغناطيسي للشمس والوصول للأرض.
ياللروعة! نحن إذًا نُمطر بوابل من الرياح الشمسية بصفة مستمرة. ولكن، كيف لا نصاب بأذى إن كنا نقف في طريق مثل هذه القوة المنطلقة نحونا من الفضاء؟ لحسن الحظ، يتمتع كوكب الأرض بمجاله المغناطيسي الذي يحصننا من الاحتراق من أثر التعرض لها. فتسافر إلينا مليارات الأطنان من البلازما، ولكنها جميعًا تنعطف بفعل المجال المغناطيسي للأرض.
إن المجال المغناطيسي الذي يحمي الأرض غير مرئي، ويتكون بفعل الحديد الساخن المنصهر الكامن في مركز الكوكب. ينتج عن دورة هذا المعدن السائل تيارات كهربائية تكون ذلك المجال المغناطيسي، والذي يندفع بدوره خارج مركز الأرض من خلال القشرة منطلقًا إلى الفضاء ومغلفًا الكوكب ليحمينا. ويطلق على هذه الطبقة الغلاف المغناطيسي، ويرجع الفضل إليها في انعطاف أغلب الرياح الشمسية القادمة باتجاهنا.
غير أنه يتمكن قدر قليل من الرياح الشمسية من دخول غلاف الأرض الجوي مسببًا ظاهرة الشفق القطبي؛ وهي الدليل المرئي على وجود الرياح الشمسية. كيف يحدث الأمر إذًا؟ بينما يرتد أغلب الجسيمات عند الغلاف المغناطيسي، فإن بعضها يتمكن من النفاذ من خلال المناطق الأكثر ضعفًا به، وهذه المناطق الضعيفة موجودة عند قطبي الأرض فيما يشبه الأنفاق. هكذا، تدخل بعض جسيمات الرياح الشمسية إلى غلافنا الجوي ويبدأ المرح!
عندما تجد الإلكترونات الموجودة بالرياح الشمسية طريقها عبر الغلاف المغناطيسي، فإنها تواجه مكونين أساسيين في غلافنا الجوي؛ وهما الأكسجين والنيتروجين. عندما يتصادم هذان العنصران مع الإلكترونات عالية الشحنة الآتية من الشمس، فإنهما ينشطان. وليهدأ العنصران ويعودا إلى مستوى الطاقة الطبيعي لهما، فلا بد أن يطلقا الطاقة الزائدة التي اكتسباها؛ وذلك في شكل مجموعة من الأضواء يُطلق عليها الفوتونات. هذا ما نراه في صورة ستائر ضوئية راقصة في سماء القطبين ليلًا.
يظهر الشفق القطبي في ألوان متعددة وفقًا لمكان تفاعل الإلكترونات مع الأكسجين والنيتروجين. واللون الأكثر شيوعًا هو الأخضر البرَّاق، غير أنه قد تمت ملاحظة ألوان أخرى تتباين من الأحمر حتى الوردي، ومن الأخضر حتى البنفسجي، وذلك بدرجات متفاوتة. ينتج الأكسجين لونًا مختلفًا في الارتفاعات المنخفضة عنه في الارتفاعات العالية. فيشيع اللون الأخضر المصفر في الشفق القطبي الذي يحدث في الارتفاعات المنخفضة بين مائة وثلاثمائة كليو متر، في حين ينتج عن تصادمه في الارتفاعات التي تزيد على ثلاثمائة كيلو متر (أي في طبقة الأيونوسفير) شفق أحمر خلَّاب؛ وهو مشهد نادر.
ويمكن للنيتروجين أيضًا إنتاج شفق أحمر، ولكن عندما يحدث التصادم عند ارتفاع حوالي مائة كيلو متر، وهو عادة ما يكوِّن الحواف المتموجة للشفق. ويوجد كلٌّ من الهيدروجين والهليوم في طبقة الأيونوسفير أيضًا، وتكوِّن هذه الغازات الأخف ألوانًا زرقاء وبنفسجية جميلة، غير أن هذه الألوان ليست واضحة دائمًا للعين المجردة، وأحيانًا ما نحتاج إلى كاميرا جيدة لنتمكن من رؤيتها.
يحدث الشفق القطبي طوال الوقت، إلا أنه لا يُرى بالنهار لأن ضوء الشمس يفوقه. فرؤية الشفق جيدًا تتطلب أن تكون السماء صافية؛ حيث تغطي السحب مشهد الأضواء. ويوجد كثير من الناس الذين يهتمون بالسفر لرؤية هذا المشهد السريالي في السماوات. عندما نفكر أن مثل هذا المشهد الخلاب هو نتاج لنشاط يحدث على سطح الشمس، ولقدر ضئيل فقط من الرياح الشمسية المخترقة لغلافنا الجوي، فإننا حتمًا نتذكر مدى اتساع الكون وغموضه.
المراجع
www.webexhibits.org
www.sciencekids.co.nz
http://alaska.gov/kids/learn/northernlights.htm
http://solarscience.msfc.nasa.gov/SolarWind.shtml
Image by freepik