وسائل التواصل الاجتماعي بين الخير والشر والمتداول

شارك

مرت ثلاث سنوات منذ قررت تعطيل حسابي «مؤقتًا» في فيسبوك. ولكنني ما زلت إلى اليوم أسمع في أي تجمع التعليق نفسه «يؤسفني أنك لست في فيسبوك!»، كلما تساءلت عن موضوع متداول أجهله في شبكات التواصل الاجتماعي. أفتقد حقًّا شكل الحياة على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في مثل هذا الوقت الرهيب حين أصبح التفاعل البشري المباشر محدودًا، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة – أو بالأحرى الوسيلة الوحيدة – للترفيه والتفاعل مع الرفاق. ولكن الأمور ليست وردية كما قد تبدو.

لا أحد يمكنه إنكار أن اختراع التواصل الإلكتروني هو أحد أعظم اختراعات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتاريخ وسائل التواصل الاجتماعي بالتأكيد يرتبط باختراع الإنترنت وانتشاره؛ إذ يعتمد في المقام الأول على الاتصال إلكترونيًّا. من هذا المنطلق، ندرك أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي تضم مجموعة واسعة من الأشياء، تشمل: شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وخدمة المدونات القصيرة «تويتر»، وتطبيق المراسلات «واتسآب»، وموقع مشاركة الفيديوهات «يوتيوب»، وغيرها أشياء أخرى كثيرة في الوقت الحاضر.

ولعل حقيقة أن عدد مالكي الهواتف المحمولة يتفوق على عدد مالكي فرش الأسنان تجعلنا ندرك أن وسائل التواصل الاجتماعي بالتأكيد عالم كبير. لقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، والجميع يستخدمونها مع وجود اختلافات طفيفة. فيوجد من يستخدمونها في التواصل مع الأصدقاء والعائلة، أو في البحث عن وظيفة، أو الترفيه عن أنفسهم، أو تنمية وعيهم بالأحداث الجارية. فقد سُجل في عام 2020 ما يقدر بنحو 3.6 مليارات مستخدم نشط في مواقع التواصل الاجتماعي على مستوى العالم. ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى ما يقرب من 4.41 مليارات في عام 2025.

منذ فجر التاريخ، ونحن نعلم عن ظهر قلب أن التقدمات التكنولوجية الهائلة ترتبط دائمًا بتغيرات جوهرية في حياة الناس وبنشأة نقاش حول طبيعتها: هل هي خير؟ أو شر؟ وفي وقت قصير نسبيًّا، ظهرت منصات التواصل الاجتماعي، فأحدثت ثورة في طريقة تواصل الناس، وصارت إحدى أهم أدوات تمكينهم، وشجعت سلوكيات غير صحية ومدمرة في الوقت نفسه. كان ذلك سببًا في ظهور خلاف حولها؛ فكثيرون يطلقون عليها «لعنة»، في مقابل من يمتدحون «قوة» وسائل التواصل الاجتماعي.

ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي بنية طيبة في المقام الأول، وهي تعزيز علاقاتنا وتوسيعها. فبغض النظر عن موقعك على هذا الكوكب، يمكنك العثور على من يشاركونك في الاهتمامات نفسها. وقد ثبتت آثارها الإيجابية في دعم الصحة العقلية للأفراد؛ إذ أظهرت الأبحاث أن من يتلقون الدعم إلكترونيًّا ممن يعانون المشكلات نفسها لديهم نتائج صحية أفضل ممن قد لا يطلبون دعمًا. هنا يكمن جمال وسائل التواصل الاجتماعي بصفتها أداةً للاتصال؛ فبإمكانك التواصل مع أي شخص لمشاركته في أفكارك والتعلم أيضًا.

تقدم وسائل التواصل الاجتماعي معلومات أكثر مما قد تجدها في المكتبات، وبإمكانك الوصول إليها في أي وقت. فأذكر عند كتابتي أطروحة الماجستير، بنيت كثيرًا من الأفكار ذات السمات الثقافية الخاصة من تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. وكذلك بإمكانك التعلم بسهولة وتعزيز معرفتك بأي مجال من الخبراء والمحترفين، عن طريق متابعتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. فبغض النظر عن موقعك وخلفيتك التعليمية، يمكنك تثقيف نفسك مجانًا!

كذلك يستفيد المعلمون كثيرًا من وسائل التواصل الاجتماعي؛ فبإمكانهم الوصول بسهولة ويسر إلى الطلاب باستخدام الأدوات المتاحة المختلفة، بدلًا من الأساليب التعليمية التقليدية. وسواء كان المعلمون يستخدمون منصة «زووم» أو يحملون مقاطع الفيديو على موقع «فيسبوك»، لم يعودوا يرهبون هذه الأدوات. بالإضافة إلى ذلك، لم تعد محاضراتهم تقتصر على طلاب فصولهم؛ فصار بإمكانهم الوصول إلى آخرين من جميع الأنحاء بمقاطع الفيديو التي يسجلونها. فخرج المعلم من قوقعته، وصار يستخدم الآن أدوات أخرى أكثر تحديًا؛ إذ طُبق في الأنظمة التعليمية الحالية «التعلم المدمج»، وهو نظام يمزج بين التعليم الصفي التقليدي والتعليم الإلكتروني.

وبالمثل، ربطت الدراسات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بتحقيق نجاح أكبر في الحياة المهنية. فقد أصبح العالم بأسره سوقًا مفتوحًا لرجال الأعمال وروادها؛ حيث يمكنهم الربح من أعمالهم وجعلها أقل تكلفة بترويجها إلى الجمهور المناسب في أي مكان، في مقابل رسوم زهيدة للإعلان. ويوجد سبب وجيه آخر يجعلنا ندعو وسائل التواصل الاجتماعي «بالنعمة» حقًّا؛ وهو دورها في بناء المجتمعات. فقد وفرت فضاءً للنقاش يضم أشخاصًا من خلفيات مختلفة، وتساعد المحتاجين باستخدام طرق سريعة ومبتكرة، وتنشئ الوعي وتنميه، وتعزز حياة الناس.

ورغم كل ما سلف، فإن كل ما يجعل وسائل التواصل الاجتماعي فريدة من نوعها وذات تأثير إيجابي في حياتنا، بإمكانه أن يزيد الأمور سوءًا أيضًا. فقد صار التنمر الإلكتروني أو التنمر السيبراني إحدى أكثر مشكلات وسائل التواصل الاجتماعي خطورة، وخاصة بين المراهقين؛ إذ تتيح وسائل التواصل الاجتماعي إنشاء عدة حسابات قد تكون مزيفة، مما قد يدفع ذوي النيات السيئة إلى استخدامها بسهولة شديدة في التنمر دون رقيب. وبإمكانهم أيضًا تهديد الآخرين وإرهابهم، أو نشر الشائعات وتداولها؛ فتؤثر في الاستقرار المجتمعي.

تعد الملاحقة مشكلة أخرى تواجه مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي؛ فعندما ينشرون معلومات كثيرة عن حياتهم وعاداتهم اليومية، يسهلون على الملاحقين مهمتهم. وبالمثل تُعد سرقة الهوية والقرصنة من تبعات مشاركة البيانات الشخصية؛ إذ تسهل مشاركتها من تفقد حسابات المستخدمين واختراقها بسهولة. وكذلك قد يؤدي إلى خسائر تجارية، بل قد يؤثر في حياة الأفراد الشخصية وسمعتهم أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، عندما يشارك المستخدمون لحظاتهم السعيدة ونجاحهم مع الآخرين، قد يدفع ذلك بعض الذين يعانون مشكلات التقدير الذاتي وانعدام الأمن النفسي، دون قصد، إلى جعلهم مقياسًا لنجاحهم أيضًا؛ فيؤدي إلى تعميق مشاعرهم بالدونية والفشل.

لا تمتلك وسائل التواصل الاجتماعي قوى ترابط فقط، بل تمتلك قوًى مدمرة أيضًا. فقد تربط بين الأشخاص المضللين، وتُشحن مواقفهم ومعتقداتهم السلبية؛ ما يؤدي إلى أعمال كارثية تضر كثيرًا من الأبرياء. بالإضافة إلى ذلك، فإن طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي كونها محتوًى قائمًا على ما ينشره المستخدم، يسهل للجميع مشاركته دون قيود جوهرية على نوعه وطبيعته الفيروسية في الانتشار والتبادل؛ فتسمح بانتشار المعلومات الخاطئة وغير الموثوقة بسرعة هائلة.

أظهرت الإحصاءات أن مستخدم الإنترنت المتوسط يمضي نحو 26٪ من العام على شبكة الإنترنت. ولأن معظم البالغين يذكرون شكل الحياة قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، يسهل ابتعادهم عنها ولو لمدة قصيرة. ولكن بالنسبة إلى النشء، فبالكيدودة يستطيعون فعل ذلك. ولذلك تظهر مشكلة خطيرة أخرى محتملة، وهي «إدمان وسائل التواصل الاجتماعي».

ويكشف لنا العلماء عن روابط متزايدة بين الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي واكتئاب المراهقين. فالنشء الذين يشعرون بالفعل بالتعاسة والعزلة ينفصلون عن مجتمعهم ويصبحون أكثر عرضة للخطر؛ إذ يبحثون عن تجارب إلكترونية للهروب من الواقع، وليشعروا بأن أحدًا ما يهتم لأمرهم، ولكن هذا ما يجعل اكتئابهم وقلقهم يزداد سوءًا. فيدخلون في «حلقة إدمان لا تنتهي أبدًا»، كما صاغها عالم النفس والكاتب نيكولاس كارداراس؛ إذ يمضون أوقاتًا مطولة في شبكات التواصل الاجتماعي؛ بحثًا عن المزيد، دون إدراك عاقبة ذلك على عواطفهم.

سواء أكانت وسائل التواصل الاجتماعي «خيرًا» أم «شرًّا»، «نعمة» أم «نقمة»، فإن لكل رأي أكثر من دليل يدعم حجته، ولكن البحث عن مؤثراتها لا يزال في مهده؛ مع وجود بيانات علمية نادرة نسبيًّا. ويتضح لنا أن ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي لا يبقى أبدًا على وسائل التواصل الاجتماعي، بل يؤثر في حياتنا ومجتمعاتنا كلها. لذلك عليك أن تفهم وأن تساعد الآخرين على الفهم، وأن تؤدي دورًا في جعل وسائل التواصل الاجتماعي تتسم بالمسئولية. تَذكَّر أن تختار الصحيح في الوقت المناسب وبالكميات المناسبة؛ للحفاظ على سلامة الجميع وصحتهم ورضاهم.

المراجع

britannica.com

broadbandsearch.net

carrierclinic.org

historycooperative.org

newportacademy.com

statista.com

techmaish.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية