بدأت المعاملات التجارية بين البشر منذ قديم الأزل عن طريق المقايضة ثم انتقلنا إلى استخدام النقود في النهاية، وهو الأمر الذي استمر معنا حتى الآن. والآن، وبينما تصبح حياتنا رقمية أكثر فأكثر، كذلك الحال مع أنظمتنا المالية؛ فنحن نتجه نحو مستقبل غير نقدي تتم فيه المعاملات المالية ببساطة عن طريق مسح رمز الاستجابة السريعة QR code أو باستخدام بطاقات الائتمان. إلا أن التغيير من المعاملات النقدية الملموسة إلى المعاملات الرقمية غير الملموسة له عواقب؛ بعضها إيجابي وآخر سلبي.
حاليًّا، نحن نعيش في عالم «FinTech»، وهو اختصار للتكنولوجيا المالية؛ إذ تعتمد هذه الصناعة الناشئة على تقديم الخدمات المالية الرقمية. على سبيل المثال، تستهدف هذه التكنولوجيا عددًا من الخدمات المصرفية؛ كإتمام بعض المعاملات بدلًا من أن يتعين علينا الذهاب إلى البنك بأنفسنا؛ لأنه يمكننا القيام بها من خلال التطبيقات على هواتفنا المحمولة أو من خلال المواقع الإلكترونية. ومع ذلك، ونحن نتعمق أكثر في عالم المساحة الافتراضية ونبتعد أكثر عن النقود الورقية، فماذا يعني هذا؟
تُعد السويد دولة رائدة في عدم استخدام النقود الورقية. فوفقًا لمقال نشرته الإذاعة الوطنية العامة (NPR): «في عام 2018، دفع 13٪ فقط من السويديين نقدًا في عمليات الشراء، وذلك بناءً على استطلاع رأي أجري على مستوى البلاد، وبذلك انخفضت النسبة نحو 40٪ مقارنة بعام 2010».
وإذا زرت السويد، فستقابلك في أماكن عمل كثيرة لافتات «لا يوجد دفع نقدي، بالبطاقات فقط». أصبح الدفع النقدي نادرًا بشكل متزايد؛ وذلك بفضل التغطية القوية للنطاق العريض وترحيب المواطنين بهذه التكنولوجيا. ولهذا فإن هذا الاتجاه يسير بأقصى سرعة؛ حتى إنه في بنوك عديدة، سيصعب عليك أن تحصل على أموال نقدية. يرى أشخاص كثيرون أنه من الأفضل أن يتنقلوا بدون أموال نقدية؛ لأنه يقلل خطر التعرض للسرقة، وكذلك يجعل المعاملات النقدية أسرع.
ويشعر كثير من الناس في جميع أنحاء العالم بالقلق من خطر المراقبة في العصر الرقمي، نجد كلير إنجرام بوجوسز، الباحثة في كلية ستوكهولم للاقتصاد، تقول إن «المواطنين السويديين العاديين غير قلقين على الإطلاق. فسهولة الوصول إلى حسابك المصرفي، وأن تكون أموالك في متناول يدك، وبشكل متزايد على ساعتك الذكية، تفوق إلى حدٍّ كبير أي مخاوف لديهم بشأن الأمان أو حول تعقبهم».
زارت صديقة لي السويد مؤخرًا، وعندما سألتها عن تجربتها هناك، قالت لي: «في الأساس، الدفع النقدي غير مقبول في أي مكان تذهب إليه في ستوكهولم؛ وهذا جعل حياتنا أسهل بكثير؛ لأننا لم نكن بحاجة إلى تحويل العملة. كانت تجربة مميزة على عكس السفر إلى بلد غير متوافر به أجهزة بطاقات الائتمان بسهولة، أو حيث تكون الأجهزة المتوافرة لا تعمل مع البطاقات الخاصة بك. كذلك، يمكنك تجنب المواقف المحرجة لعدم وجود ما يكفي من النقود؛ حيث يمكنك الدفع بسهولة باستخدام الهواتف والساعات الرقمية الخاصة بك».
وقد أكد كريستوفر لوب، المدير العام لمطعم وشركة الأغذية البيئية «إربان ديلي» في ستوكهولم، ما قالته صديقتي عن تجربتها؛ حيث قال: «إنه أمر جيد لزوارنا ولنا على حد سواء. فقد وفر لنا وقتًا كثيرًا؛ لأنه لم يعد يجب علينا أن نعد النقود بعد الآن. ولم يكن هناك أي ردة فعل معاكس؛ فالجميع تقريبًا لديهم طريقة الدفع البديلة وهي بطاقة الائتمان».
كما ذكرنا سابقًا، يرى الناس في السويد أن التعامل غير النقدي وسيلة لتجنب السرقة؛ وهو ما يتماشى مع التوسع في التكنولوجيا في القطاع المالي، والتي تعتمد على الدفع النقدي الذي قد يُسهل تطبيق القانون والحد من الأنشطة الإجرامية. وذلك لأنه يمكن تتبع الأنشطة التي تتم من خلال الإنترنت ويمكن مراقبتها؛ مما يسهل المراقبة الحكومية. كذلك سيسهل مكافحة التهرب الضريبي والرشوة والتزوير والتمويل غير القانوني وعديد من الأنشطة الإجرامية الأخرى.
من المميزات الأخرى للقدرة على تتبع عمليات الشراء الإلكترونية أنها تمكن البنوك المركزية والقطاع المالي من استخدام تلك البيانات لاتخاذ قرارات مستنيرة بشأن السياسات الاقتصادية بناءً على البيانات التي جُمعت. تنتقل النقود بين الناس سريعًا، ومع الدفع النقدي لا توجد طريقة لمعرفة الدورة الكاملة لها، ولكن عندما نشتري أشياء من خلال الإنترنت، يصبح كل شيء مرئيًّا. وعلى الرغم من أن هذه البصمة الرقمية يمكن اعتبارها واحدة من المزايا، فقد تكون عيبًا نظرًا للقلق المتزايد بشأن الخصوصية على الإنترنت بالإضافة إلى السلامة.
فقد شهدنا بالفعل كيف يمكن للشركات أن تبيع البيانات وتستخدمها للتلاعب بالجمهور؛ كذلك كانت هناك هجمات إلكترونية عديدة على الشركات التي تقوم بتسريب بيانات العميل السرية؛ مما جعلها عرضة للجرائم الإلكترونية. هناك أيضًا مشكلة أخرى وهي أن البنية التحتية ليست متاحة للجميع للتقدم نحو مستقبل غير نقدي.
وبالرغم من أنه في بعض البلدان، مثل السويد، أصبحت فكرة التحول إلى دولة بلا نقود ورقية حقيقة يومية، فإن التخلي عن استخدام النقود قد يؤدي إلى التخلي عن القطاعات الضعيفة في المجتمع. تشمل هذه القطاعات كبار السن وغير القادرين ممن قد لا يستطيعون الوصول إلى هذه التكنولوجيا أو ممن ليست لديهم المعرفة باستخدام الأدوات المالية الرقمية الحالية. في النهاية، تشير التقديرات إلى أن نحو ملياري شخص على مستوى العالم لا يملكون حسابًا مصرفيًّا، ولهذا السبب لا يزال بعض الناس مرتبطين بفكرة استخدام النقد. فالنقد متاح للجميع في حين إن الخدمات المالية الرقمية ليست كذلك.
أيضًا وبالرغم من أن التحول إلى الدفع غير النقدي والاعتماد على استخدام الهواتف الذكية والبطاقات أصبح أكثر شيوعًا، فإن الكثيرين يتأملون في تأثير ذلك على البيئة. لأول وهلة، قد تبدو فكرة الاستغناء عن النقود الورقية حلًّا صديقًا للبيئة؛ فذلك يعني أننا نقطع أشجارًا أقل ومن ثمَّ هذا أمر مفيد للبيئة، أليس كذلك؟
في الورقة البحثية التي قدمتها سابرينا روشيمونت بعنوان «مجتمع غير نقدي: الفوائد، والمخاطر، والقضايا»، تقول: «تشير الاتجاهات إلى أنه بحلول عام 2020، سوف تصبح الهواتف الذكية أكثر الأجهزة الضارة بالبيئة من بين جميع الأجهزة. ففي الوقت الذي تستهلك فيه الهواتف الذكية طاقة قليلة للتشغيل، فإن 85٪ من تأثير انبعاثاتها يأتي وقت تصنيعها. فيتطلب تصنيع شريحة الهاتف الذكي واللوحة الأم كمية كبيرة من الطاقة؛ لأنها تتكون من معادن ثمينة يتم استخراجها بتكلفة عالية. كذلك، فإن العمر الافتراضي للهواتف الذكية قصير؛ مما يدفع الشركات إلى إنتاج مزيد من النماذج الجديدة وكمية هائلة من المخلفات». وإنتاج الهواتف الذكية ليس المشكلة الوحيدة؛ إذ يجب تخزين البيانات التي نستخدمها لتنفيذ معاملاتنا عبر الإنترنت في مكان ما.
بينما نستخدم هواتفنا الذكية للدفع غير النقدي، تمر هذه المعاملات عبر شبكات كبيرة من الخوادم التي تحتاج إلى كثير من الطاقة للحفاظ على تشغيلها. ومع تزايد الطلب على الخدمات المالية الإلكترونية، فإننا نعمل على زيادة استهلاك الكهرباء، الذي يعتمد بدوره على الوقود الأحفوري بشكل كبير، ومن المعروف أن استخدامه يضر بصحة كوكبنا. كما ذكرت بريدجت دايتون في مقالها «علم البيئة: البصمة الكربونية للوسائل الجديدة للدفع»، فإن «البصمة الخاصة بمراكز البيانات وشبكات الاتصالات سوف تصل إلى 764 ميجاتون في عام 2020، وذلك بناءً على حسابات الخبراء. وبعبارة أخرى، فإن بصمتها سوف تساوي أكثر من بصمة 163 مليون سيارة لمدة عام».
لذلك من المهم أن ندرك إيجابيات وسلبيات المجتمع غير النقدي والاعتماد على التكنولوجيا المالية FinTech. إذا كنا نتجه حتمًا نحو هذا المستقبل، فيجب إجراء الدراسات لضمان وضع الأسس الصحيحة في وقت مبكر لتقليل الضرر الذي قد يلحق بالناس.
المراجع
actuaries.org.uk
bcg.com
cashless-economy.com
forbes.com
greenjournal.co.uk
npr.org
Cover Image by freepik