بعض المهن تتطلب تحلي أصحابها بأعلى درجات ضبط النفس والتحكم في الانفعالات النفسية والسلوكية وردود الأفعال بشكلٍ مثالي – مثل رجال المطافئ والأطباء الجراحين – فمن شأن الخطأ أن يؤدي إلى خسائر كبيرة لا يمكن تعويضها. ولكن هناك مهنة أخرى تفوق التوقعات العادية وهي مهنة رواد الفضاء؛ فرائد الفضاء سواء كان رجلًا أو امرأة يُختار بعناية شديدة، وعليه اجتياز سلسلة طويلة من الاختبارات العلمية والثقافية والجسدية والذهنية، وأهم من ذلك كله صحته النفسية.
يرصد فريق من أطباء الصحة النفسية التطور الذي يحدث في الصحة النفسية لرواد الفضاء. فهناك ضغوط كبيرة تقع عليهم بسبب بقائهم وعملهم في غرف مغلقة وضيقة أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا بعيدًا عن الأهل والأصدقاء؛ وهو ما يعني شعورهم بالوحدة والزحام في نفس الوقت، وهذه الظروف كفيلة بتشتيت أي شخص طبيعي. يذكر الدكتور نيك كاناس، خبير علم النفس بجامعة كاليفورنيا وكبير الأطباء النفسيين بمستشفى سان فرانسيسكو، أنه يدرس سلوك رواد الفضاء في هذه الظروف، وهو يعكف حاليًّا على دراسة طواقم محطة الفضاء الدولية. فيملأ أعضاء هذه الطواقم نماذج استطلاعية عن حالتهم النفسية ومشاعرهم اليومية في الفضاء وداخل المركبة الفضائية، ومن ثَمَّ يقوم الدكتور كاناس بتحليل تلك النماذج ودراسة البيانات الواردة فيها. وقد كشفت دراسات عديدة عن بعض السلوك المثير للاهتمام لدى رواد الفضاء.
من أهم نتائج الدراسات عن حالة رواد الفضاء النفسية أن كثيرًا منهم يستطيعون السيطرة على مشاعرهم بأنفسهم عندما يكونون في حاجة إلى ذلك. وهذا أمر هام جدًّا؛ فمشكلة التحكم في السلوك النفسي والعصبي تكمن في كبت المشاعر وعدم السيطرة عليها لفترة قد تصل في بعض الأحيان إلى ستة أشهر، وقد يتسبب ذلك في تدميرهم. وكما هو معلوم لدى علماء النفس يحتاج الإنسان من وقت إلى آخر إلى الاسترخاء واستعادة السيطرة على مشاعره بعد زوال الضغوط. لكن في حالة رواد الفضاء، فهذا الخيار غير موجود؛ حيث تتوالى الضغوط ولا يوجد وقت كافٍ للاسترخاء ومعاودة النشاط، ومن ثم فهم أصحاب طبيعة خاصة.
الاتجاه السائد لدى رواد الفضاء هو تناقص قدرتهم على التواصل الاجتماعي مع زملائهم داخل سفينة الفضاء. وبعد أن يعيشوا بعضهم مع بعض مدة طويلة يكون من الصعب على أحدهم الاستماع إلى الآخر، ومن ثم يزداد التوتر والضغط. إحدى وسائل القضاء على هذا الضغط تكمن في إلقاء اللوم على قيادة البعثة الفضائية؛ وهي وسيلة سائدة للتخلص من التوتر. وعادة ما يصرخ الناس في وجوه أبنائهم عوضًا عن رؤسائهم في العمل؛ وهي طريقة تسمى «الزحزحة»، وقد تفيد الزحزحة في إزالة التوتر والضغط، ولكنها تسبب ضررًا للأسرة ولا تحل المشكلة.
يقول الدكتور كاناس إنهم وجدوا أنه عندما يقول أعضاء الطاقم إننا نعاني من التوتر والضغط، يتضح أنهم لم يتلقوا دعمًا كافيًا من محطة القيادة الأرضية خلال هذه الفترة. ويتضح أنه عندما تكون محطة القيادة في ضغط أو توتر، فليس هناك دعم كافٍ من الإدارة، أي زحزحة مرة أخرى. لذا قد تكون عملية الزحزحة مدمرة؛ لأنها تترك المشكلات الحقيقية بلا حلول؛ فالمشكلات التي قد تحدث خلال تمارين لعدة أشهر على سفينة حربية مثلًا قد تتضاعف إذا كانت الرحلة إلى كوكب المريخ وستستمر لثلاث سنوات سيكون الطاقم خلالها معزولًا تمامًا. فإذا ظهرت أي مشكلة نفسية، فسيضطرون إلى علاجها بأنفسهم؛ لذلك، كلما خضع الرواد لتدريب أكبر كان الوضع أفضل.
وتقول الأبحاث إن تغيرات الحالة النفسية لرواد الفضاء قد تكون متوقعة على طول الرحلة الفضائية. فيقول كاناس إن الشخص يبذل قصارى جهده حتى منتصف الرحلة في البعثات البعيدة، ثم يكتشف أنه لا يزال هناك نصف آخر بنفس الطول فيحدث الاكتئاب. فإذا كان الأمر كذلك في الفضاء، فلا بد أن يعرف رواد الفضاء أن هذا سوف يحدث وأن يتوقعوه. كذلك فنوع الدعم والتأييد من قائد البعثة الفضائية لا بد أن يتغير مع تقدم البعثة والرحلة. فقد وجد العلماء مثلًا أنه في بداية البعثة كان أكثر القادة الحاصلين على الإشادة هم الذين يلتزمون بأهداف البعثة تمامًا وينجزون ما هو مطلوب منهم؛ ولكن في الجزء التالي من البعثة، أكثر القادة الحاصلين على الإشادة هم الذين يركزون على الجانب المعنوي ومشاعر الآخرين.
يقول كاناس إن هناك حاجة لتدريب قادة البعثات على مراعاة ذلك حتى يستطيعوا تعزيز الجانب النفسي طوال الرحلة. وهذا هو علم السلوك الجماعي الأساسي الذي سيؤدي إلى فهم هذه الحالات السلوكية والاستفادة من نتائجها في البعثات الفضائية المقبلة.
*Cover image credits: link
**هذا المقال منشور في مجلة كوكب العلم، عدد خريف 2017.