تبدو المملكة النباتية صامتة، ولكنها في الحقيقية تزخر بالأسرار. فتعتمد الحياة على كوكب الأرض حرفيًّا على النباتات؛ حيث تمثل قاعدة السلاسل الغذائية وتحفظ توازن الغلاف الجوي. ولكن، هل تساءلت يومًا كيف تسنى لمثل هذه المملكة العملاقة أن تبقى وتزدهر لملايين السنين بدون تواصل؟ في واقع الأمر، تتمتع النباتات بحياة اجتماعية؛ وقد بدأ العلماء فهمها مؤخرًا.
ولم تكن فكرة تواصل النباتات مقبولة بشكل كبير في المجتمع العلمي قبل عقود قليلة؛ فعلى عكس البشر والحيوانات، لا تعتمد النباتات على الأصوات أو لغة الإشارة. بل تستخدم وسائل اتصال أخرى مثل المواد الكيميائية التي يحملها الهواء، والمركبات المذابة التي تتبادلها الجذور، وشبكات الفطريات الممتدة تحت الأرض.
تحذيرات هوائية
عندما تستنشق رائحة العشب المجزوز لتوه، فما تستنشقه في الواقع هو صرخة استغاثة. فالنباتات قادرة على إطلاق الاستغاثات وتحذير جيرانها من الأخطار القريبة من خلال إطلاق مواد كيميائية يحملها الهواء تُعرف بالمركبات العضوية المتطايرة. وتستطيع بعض الأنواع النباتية التعرف على الآفات التي تهاجمها من خلال لعابها، وتطلق روائح جاذبة لمفترساتها. وفي خلال ساعات تظهر المفترسات وتبعد الآفات عن النباتات.
وعندما تستقبل النباتات القريبة تحذيرات المركبات العضوية المتطايرة، تعزز من قواها الدفاعية ضد الآفات القريبة الجائعة احترازيًّا. هذا، وقد أظهرت دراسات عديدة أن المركبات العضوية المتطايرة تعزز صحة النباتات المستقبلة لها؛ حيث تفقد أوراقًا أقل للمفترسات، بل تطرح أخرى جديدة أكثر. ولا يزال الباحثون عاكفين لبضع سنوات الآن على توصيف المركبات العضوية المتطايرة كيميائيًّا ومعرفة كيفية ترميز مختلف الرسائل من خلالها.
اتصالات جذرية
ترسل النباتات معلومات هامة وتستقبلها وتمررها عن طريق الجذور. في تجربة معملية، قام باحثون بزراعة ستة نباتات حديقة على صف واحد، ثم عرضوا أولها إلى ظروف الجفاف. راقب الباحثون المسام الموجودة على سطوح الأوراق؛ حيث يتغير اتساعها وفقًا لتوافر المياه. بعد بضع دقائق قامت النبتة المعرضة للجفاف بغلق مسامها، وكذلك فعلت النبتة المجاورة لها. وفي خلال ساعة أغلقت النباتات الأربعة الباقية مسامها واحدة تلو الأخرى؛ مما يشير أنها قد تلقت رسالة لتعد عدتها للجفاف. أعيدت التجربة مع اتخاذ الضوابط اللازمة لعزل الجذور بعضها عن بعض. احزر ماذا حدث؟ بقيت المسام مفتوحة.
الشبكة الفطرية
قد يأخذ تواصل النباتات تحت التربة صورًا أكثر تعقيدًا ليضم أطرافًا أخرى. فمثلها كمثل البشر الذين يتواصلون عبر الشبكة العنكبوتية، تتواصل النباتات من خلال شبكة فطرية. لربما كان عيش الغراب هو أشهر جزء من الفطريات بالنسبة إلى البشر؛ ولكن الجزء الأكبر من أجسامها يتكون من شبكة خيوط رفيعة تعرف بالميسيليوم. تسافر شبكة الميسيليوم تحت الأرض وتربط جذور مختلف النباتات والأشجار الموجودة في المكان معًا؛ مما يسمح لها بالتواصل وغيره من العمليات.
والعلاقة بين النباتات والفطريات قائمة على المنفعة المتبادلة. فبينما تمد النباتات الفطريات بغذائها في صورة كربوهيدرات، تقوم الفطريات بتعزيز مناعة النباتات، وإمدادها بالمغذيات، ومساعدتها على امتصاص المياه، وتبادل المواد والمعلومات. تقوم الأشجار بترميز رسائلها في صورة إشارات كهربائية تمر عبر جذورها وتنتشر عبر الشبكة الفطرية. وبهذه الطريقة تستغيث الأشجار عند تعرضها للهجوم، وتغذي شجيراتها الأبناء، وتُرسل مواد كيميائية سامة لتدمير النباتات غير المرحب بها.
ومثل شبكتنا العنكبوتية، للميسيليوم نسختها الخاصة من الجرائم السيبرية. بعض النباتات مثل زهرة السحلبية الشبح لا تمتلك صبغة الكلوروفيل؛ ولهذا فإنها لا تستطيع إنتاج غذائها بنفسها من خلال التمثيل الضوئي. وهكذا فإنها تسرق الكربون الذي تحتاج إليه من الأشجار القريبة من خلال الشبكة الفطرية. وبعض أنواع السحلبيات الأخرى أكثر خبثًا؛ حيث تسرق الكربون من جيرانها، في حين تستطيع القيام بالتمثيل الضوئي بنفسها.
روابط أسرية
النباتات قادرة على تمييز أقاربها؛ فتشير بعض الدراسات إلى أن التواصل عبر الهواء يكون أكثر فعالية بين النباتات المتماثلة جينيًّا. علاوة على ذلك، تتبع النباتات استراتيجية تُعرف بـ«انتقاء الأقارب»؛ حيث تتنافس على الموارد مع الغرباء وتضع احتياجات أقاربها في الاعتبار. وتتجلى هذه الاستراتيجية في التربة، فتقوم الأشجار الأمهات بتغذية الشجيرات الأبناء من خلال الشبكات الفطرية. كذلك وُجد أن النباتات المحاطة بأخرى غريبة تنمو جذورها بصورة أكبر لتستطيع المنافسة بقوة على الغذاء، في حين إن النباتات المحاطة بأقاربها تكون جذورها أصغر ويتشارك جميعها في الموارد المتاحة.
أراهن على أنك أصبحت تنظر إلى النباتات من منظور مختلف الآن. حقًّا، لكلِّ كائن حي صوت خاص به يمكِّنه من التحدث عن نفسه؛ إنما يتوقف الأمر على مدى اهتمامنا نحن البشر بالإصغاء إلى ما تريد الطبيعة أن تقوله لنا.
المراجع
mentalfloss.com
the-scientist.com
bbc.com
theguardian.com
bigthink.com
*هذا المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد خريف 2017.