بالعودة إلى الفنان المصري القديم الذي تأثر بأسطورة خلق الكون، ومشاهدة طريق درب التبانة في السماء، وإيمانه بالإله «رع»؛ فقد صوَّر السماء سيدة جميلة جسدُها مرصع بالنجوم وأسماها «نوت». والأرض تخيلها رجلًا متكئًا وأسماه «جب»، وهما ابنا إله الريح والهواء «شو» وإلهة الرطوبة «تفنوت». وعندما اتحد «نوت» و«جب» أنجبا «أوزوريس، وإيزيس، وست، ونفتيس» حتى فصل والدهما، الإله «شو»، بينهما. وقد تخيله الفنان رجلًا رافعًا يديه حاملًا بهما السماء، ويرتدي تاجًا يحمل رمز الريشة.
وفي كثير من مقابر المصريين القدماء نجد الأسقف مزينة بلون الماء ليلًا ومرصعة بالنجوم، كأن الأم تحمي بجسدها الموتى في قبورهم. وإذا نظرت إلى السماء في نهار يوم شتوي والغيوم تملأ السماء وأشعة الشمس تخترق السحاب، فستشاهد هذا الشكل الهرمي الذي تخيله الفنان المصري القديم بأنه يد الإله «رع» تنشر الخير والنماء في الأرض. واستوحى منه أيضًا بناء الأهرامات العظيمة، إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة، التي يؤكد بعض العلماء تناسق بنائها مع موقع بعض النجوم في السماء. وقام الفنان المصري القديم أيضًا بنحت عديد من المسلات التي تنتصب راسية بقمم هرمية وكأنها تشير إلى السماء.
وبعد نزول الكتب السماوية من الله على رسله، وإيمان الإنسان وفهمه كيف خلق الله الأرض والسماء وسيدنا آدم عليه السلام، وكيف أُخرج آدم وزوجته من الجنة إلى الأرض، ويقين الإنسان بأن الجنة في السماء؛ زاد ذلك من حبه للسماء وارتباطه بها. فنجد منارات الكنائس ومآذن المساجد تخترق السماء، كأنها ترفع صوت الإنسان إليها؛ ولعل أشهرها مئذنة «الملوية» بالعراق التي تُعد من أهم آثار العراق القديمة. وقد بُنيت في الأصل مئذنة للمسجد «الجامع» الذي بناه المتوكل بالله العباسي عام 237ه بمدينة سامراء. وجاء اسمها من شكلها الأسطواني الحلزوني؛ فهي مبنية من الفخار بارتفاع نحو 52 مترًا، ويحيط بها من الخارج سلم حلزوني بعرض مترين، يلتف حول بدن المئذنة بعكس اتجاه عقارب الساعة، ويبلغ عدد درجاته 399 درجة. وفي أعلى القمة، توجد طبقة يسميها أهل سامراء «الجاون»، كان المؤذن يرتقيها ويرفع عندها الأذان.
ومن المئذنة الملوية، استوحيت مئذنة مسجد «أحمد بن طولون» الشهيرة بالقاهرة. وأما في القاهرة الإسلامية القديمة، فقد حوت دروبها كثيرًا من المآذن التي تصل صوت الإنسان إلى عنان السماء، وأشهرها مئذنة مسجد «الأزهر» – المئذنة المزدوجة – التي بنيت في عهد قانصوه الغوري؛ وتشبه إلى حد كبير شكل يدي الإنسان في أثناء الدعاء. وكذلك مئذنة مسجد «الحسين»؛ وهي مئذنة أسطوانية الشكل، وتنتهي بمخروط، وتشبه قلم الرصاص أو الصاروخ في عصرنا الحالي، وكأنها تنتظر الانطلاق إلى السماء. ولعل أكثر ما يعبر عن رغبة التواصل مع السماء الشرفات التي تزين المساجد؛ وهي الحواف التي ينتهي بها البناء أو المسجد. وأهم الشرفات وأكثرها شهرة تلك الموجودة في مسجد «أحمد بن طولون»، والتي جاءت على شكل عرائس ترفع أيديها بالدعاء والابتهال إلى الله. وكذلك شرفات «السلطان الحسن» و«الحاكم بأمر الله» التي تمثل أشكالًا زخرفية ترمز إلى التواصل بين السماء والأرض.
وإلى اليوم، لا تزال العلاقة بين السماء والأرض تلهم الفنانين، ومن أشهر هذه الأعمال عمل الفنان الروماني كونستانتان برنكوزي Constantin Brancusi بعنوان «عمود اللانهاية» Endless Column، فهو خير دليل على شغف الفنان لتواصل السماء والأرض. والعمل عبارة عن عمود يبلغ ارتفاعه ثلاثين مترًا، ومكوَّن من سبعة عشر جزءًا على شكل هندسي بزوايا متساوية، كأنه يحمل السماء ويصلنا إليها.
واليوم، نشاهد هذا الكم الرهيب من المباني المعمارية الكبيرة والضخمة المسماة ناطحات السحاب، والتي تتنافس عليها الدول في بناء أطول المباني، ولعل أشهرها «برج الخليفة» بدولة الإمارات العربية المتحدة، بارتفاع يصل إلى 828 مترًا، «برج ساعة مكة» بالمملكة العربية السعودية، بارتفاع 601 متر (قد تهتم أيضًا بقراءة قائمة أطول المباني في العالم، على موقع ويكيبيديا). وبمرور الزمن، نجد أن الإنسان يبحث دائمًا عن كيفية الوصول إلى عنان السماء؛ ليربط بينها وبين الأرض.
المراجع
maghress.com
ngmisr.com
youm7.com
المقال الأصلي منشور في مجلة كوكب العلم، عدد ربيع 2020.