لغز الحضارة الإنسانية - الحلقة الثالثة

شارك

بعد أن توقفت عن الكلام بسبب نظر كلٍّ من الطويل جدًّا، والقصير جدًّا، والبدين جدًّا ناحية الشباك، تحاول لفت أنظارهم لمواصلة الحوار، ولكن دون فائدة؛ فهم مازالوا يثبتون أبصارهم ناحية الشباك رغم أنه مغلق من الداخل ومن الخارج والستار عليه لم يحركه أحد. فتسأل نفسك: إلى أى شيء ينظر هؤلاء؟ هل أعجبتهم النقوش الصغيرة لحبات الفراولة وعناقيد العنب النَدية على الستار؟ ربما؛ فنحن كنا نتحدث قبل قليل عن الصحة والتغذية السليمة.

لا... إنهم يسترقون السمع إلى شيء هام؛ صوت من الخارج يزداد ويرتفع بإصرار، ومع ارتفاع الصوت يزداد معه فضولك؛ فتقوم وتفتح الشباك لتجد أمامك دخانًا أبيض كثيفًا يتصاعد باستمرار. دخان قادم من اليمين، ومن اليسار، ومن الأمام. عندما تنظر إلى الخلف لا تجد الثلاثة أمامك، وتنظر من الشباك فلا ترى شيئًا أمامك؛ ولكن الصوت مازال يعلو ويعلو، والدخان يكاد ينفذ إلى الغرفة. يستيقظ من هم بالمنزل على صوت الضجيج المرتفع، ويصيح الجميع: إنهم يهدمون القصر الموجود فى أول الشارع... أغلقوا النوافذ جيدًا، نكاد نختنق.

تسمع همهمات من الجيران ومن العقارات المجاورة: كيف يهدمون القصر؟ إن عمره يزيد عن الثلاثمائة عام، وهو مبني على الطراز اليوناني... إنه بمثابة تحفة فنية ومعمارية... ويصلح أن يكون مزارًا سياحيًّا... ما هذا الذي يحدث؟ ومن سمح لهم بهدمه؟ إنه مَعلم من معالم المدينة... هذه فوضى! وتشارك أنت بالاعتراض: كيف يهدمونه؟ وبهذه الطريقة؟ وفي هذا الوقت الباكر؟ الغبار يهاجمنا ويكاد الدخان أن يخنقنا!

بعد أن تغلق النافذة محبطًا ومستسلمًا تعود إلى سريرك؛ فتجد الأشباح الثلاثة تحته يطلون برءوسهم من أسفل السرير ويبدو على وجوههم تعبيرات الحزن والأسى. ماهذا؟ هل يخافون ويحزنون؟ هل عندهم مشاعر مثلنا ويتأثرون بما نتأثر نحن به؟ يخرج الثلاثة متسللين، وتتغير تعبيرات وجوههم ما بين الحزن، والدهشة، والاستغراب؛ فتسألهم: هل تخافون وتحزنون مثلنا؟ ألستم كائنات متقدمة ولديكم قوى خارقة؟ لماذا اختبأتم أسفل السرير؟ وهل السرير سيحميكم مما يحدث بالخارج؟

يسألك الطويل جدًّا: ماذا يحدث بالخارج؟ تجيبه مندهشًا: ألم تسمع؟ إنهم يهدمون بيتًا فى الشارع. يصيح البدين: ولكن هذه جريمة؛ فإذا كان من حقكم البناء على هذا الكوكب بهذه المباني التي تضيف إلى العين تلوثًا بصريًّا من غباء تصميمها والخامات المستخدمة في بنائها، فليس من حقكم أن تقوموا بالهدم، وتلوثوا الهواء بالغبار الخانق، وتلوثوا الآذان بهذا الصوت المزعج.

يقاطعه القصير جدًّا مكررًا جملة واحدة: أريد أن أغادر هذا الكوكب... أريد أن أغادر هذا الكوكب. يربت على كتفه الطويل جدًّا: اهدأ يا صديقي فسنغادر قريبًا جدًّا، ولكننا لم نكمل مهمتنا بعد. يستمر القصير فى ترديد نفس الكلمة: أريد أن أغادر هذا الكوكب... فتتدخل أنت محاورًا لهم كما فى السابق: أنا لا أملك إلا أن أعتذر لكم عمَّا رأيتموه فى كوكبنا؛ ففيما يبدو أنكم كائنات طيبة، ولكن ما رأيتموه هو سلوك بعض البشر، وليس كلهم ومن كان يريد...

يقاطعك الطويل جدًا: هون عليك يا صديقنا؛ فنعرف جيدًا أنه لا ذنب لك فيما رأيناه الآن. فنحن ومنذ أن هبطنا على كوكبكم الجميل... عفوًا كوكبكم الذى كان جميلاً، منذ أن هبطنا عليه ونحن نرى صورًا غاية فى الخطورة. ثم يتوجه إلى زميليه مكملاً كلامه: هل تذكرون شكل النهر الجميل فى القارة البعيدة وهم يلقون فيه الحيوانات النافقة؟ وهل تذكرون مصانع الإثيل الأخضر فى القارة الشمالية وهي ترمي مخلفاتها بالمزارع؟

يضيف إلى كلامه البدين جدًّا: نذكر جيدًا هؤلاء المجانين وهم يدفنون المخلفات الإشعاعية بالقرب من مزارع الشمندر والبرقوق؛ إنهم يظلمون أنفسهم بأيديهم. يستمر القصير فى ترديد عبارته: أريد أن أغادر هذا الكوكب... ويكمل الطويل جدًّا موجهًا كلامه إليك، وهو مازال يربت على كتف القصير جدًّا ليهدأ: إن البيئة ليست بحرًا هادئًا جميلاً تنظر إليه، وليست بيتًا واسعًا على بحيرة زرقاء يحيط به الزرع وأشجار الليمون من جميع الجهات؛ إن البيئة هي كل هذا الكوكب الذى تعيشون فيه، وكما أخبرناك سابقًا عندما كنا نتحدث عن الحضارة ومفهومها...

فيلاحقه البدين بذكر الكلام السابق: لقد استوطنتم جنة عامرة بكل متطلبات حياتكم؛ فمن أوصلها إلى هذه الدرجة من السوء؟ لا تملك إلا أن تضحك متأسيًا وحزينًا قائلاً: معكم كل الحق وأنا أتفق معكم؛ فالبيئة ليست هدم هذا البيت الذى حدث وأنتم موجودون الليلة، والكلام عن البيئة وكوكب الأرض كثير. فقد عقدنا – نحن سكان هذا الكوكب – مؤتمرات عديدة ومناقشات لا حصر لها عن كيفية الحفاظ على البيئة، ولكن – كما ترون – إنه عدم الوعي وطمع بني الإنسان...

ينفجر القصير جدًّا بجملته التى يقولها: أريد أن أغادر هذا الكوكب... أريد أن أغادر هذا الكوكب... يتحدث الطويل بشيء من التركيز: يا صاحبي، إن التقصير أو الإهمال في الحفاظ على بيئتكم له مضارّ غير مباشرة هي أكبر وأخطر من مضارها التي تعرفونها؛ فتلويث البيئة وعدم الحفاظ على توازنها سيؤديان إلى التدهور التدريجي للحد المعقول الذي يسمح لكم بالعيش على ظهر كوكب الأرض أصحاء آمنين... إن البيئة يا صديقي هي... يقاطعه صوت القصير جدًّا الذي زاد وعلا عن صوت الهدم فى الشارع: أريد أن أغادر هذا الكوكب... أريد أن أغادر هذا الكوكب...

 

رسوم محمد خميس.

الحلقة منشورة في مجلة كوكب العلم، عدد صيف 2014.

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية